وقعت مريضة أياما عدة ، تقلبها آلام الصدمة . أهلها، باستثناء إحدى أخواتها، تعاملوا مع الحدث بكثير من البلادة . رأوا فيه نهاية طبيعية لزواج غير ناجح.
- ما هي معايير النجاح..؟
قالت أختها أسماء، محتجة على موقف بعض أفراد الأسرة، الذين اعتبروا كلام أمل عن الحب والوفاء، نوعا من السذاجة. شقيقها خالد، الذي كان قد هدد زوجته مرة بالطلاق، إن هي لم تنجب له ولداً، حسب المسالة بطريقة مختلفة، قال :
- الحب تستطيعين أن تأخذيه من القصص، والمجلات، أما الأطفال فلا يمكن أن نحصل عليهم من البقالة ، أو الصيدلية .. أنت محظوظة أَن تخلصت منه ، والرجل بدله رجل .
قالت أسمـاء، محاولة أن تخفف من وطأة كلام خالد على نفس أمل المتعبة ، وقلبها الجريح :
- هذا كلام يفتقد لأدنى المشاعر الإنسانية. هل الإنسان مجرد آلة تفريخ، إذا تعطلت، أو لم تنتج النوعية التي نريدها، (وهي هنا تلمزه في موقفه من زوجته)، نقوم برميها واستبدالها بغيرها..؟
مرت شهور، أو ما يقارب السنة، تزوجت بعدها أمل من رجل أرمل لديه ثلاثة أطفال. اختارته من بين عدد ممن تقدموا لخطبتها. لم تستمع لكثير من النصائح، التي اقترحت عليها أن تنتظر أكثر، حتى يتقدم إليها شاب أصغر سناً، وليس معه أطفال، خاصة وأنها ما زالت شابة في عشريناتها. هي تعرف معنى أن تكون "مطلقة" ، في مجتمع استهلاكي، ينظر لكل شيء، من البشر إلى الجماد، نظرة مادية، تقوم على مفهوم (الجدة والاستخدام). أليس خالد أنموذجا صارخا من هذا المجتمع ، الذي تبدو فيه أسماء ، بأخلاقياتها الراقية ، كطير يغرد خارج السرب .؟
انقضى عام على زواجها، وخيال أحمد تلاشى، أو يكاد من بالها، وها هو ثمرة زواجها، جنين يتحرك في أحشائها، تنتظر قدومه بلهفة، في غضون اشهر معدودة . هل علاقاتها الطيبة بزوجها.. أم هذا الطفل الذي تترقب وصوله، هو الذي أنساها أحمد ؟ تصرمت الأشهر ورزقت بطفلها الأول.
لذة الاطفال لا يعدلها شيء.
- إنه ولد جميل.. نسميه "أحمد" ! قال زوجها .
كأنما استيقظت من حلم ، فردت بسرعة :
- أحمد ؟! .. لا .. لا غير أحمد.
رد زوجها متسائلا :
- ما به أحمد ؟. إنه اسم جميل.
امتقع لونها، وتذكرته، بل تذكرت ليلتهما الأخيرة في المسجد النبوي.. عبارته تدوي في رأسها : "لن أكون أنانيا، من حقك أن يكون لديك أطفال". اعتصر قلبها الألم وداهمتها خاطرة : "ماذا لو علم زوجها بهذا الموقف الذي وقفه زوجها الأول أحمد... كيف سيفسر قبولها باسم "أحمد"..؟
لا شك انه سيعتقد، أو أن بعض السيئين سيصور له، أنه تعلق منها بأحمد، زوجهـا الأول . لا .. لا احتراماً لذكرى الأول، ولكرامة الثاني ، أي اسم إلا أحمد.
- هل يمكن أن نسميه محمد.. أحب هذا الاسم ؟ سألته بعينين يملؤهما الاستعطاف . ابتسم ..
- على بركة الله.
سحبت آهة من أعماقها وقالت، وهي تنزل رأسها بهدوء على الوسادة :
- الحمد لله .
أربعة أعوام مرت على انفصالها عن أحمد. كل شيء أصبح في ذمة التاريخ.. الأفكار، الذكريات، الخيالات، هكذا تبدو الأمور. ابنها محمد الذي بدأ يخطو خطواته الأولى، يمثل لها مستقبلا ، وقطيعة لا شعورية مع الماضي.
لم تعد تفكر، ولو لمرة واحدة، أن حياتها الجديدة، التي كان من ثمرتها هذا الطفل ، الذي يتفتح كزهرة ، لم يكن نتيجة قرار اتخذته هي وحدها، بل يشاركها فيه، إن لم يكن مسئولا عنه كلية ، شخص أطفأ قلبه .. ليوقد لها شمعة، واجتث السعادة من أعماقه ، لتتفتح لها هذه الزهرة.
الليلة لديهم مناسبة سعيدة. شقيقة زوجها ستتزوج، وهي مشغولة بالاستعداد للمناسبة وتجهيز الأطفال. دق جرس الهاتف، رفعت السماعة:
- من .. هدى..؟ وعليكم السلام.. فعلا أنا مشغولة كما تعلمين. لن تستطيعي الحضور.. خير إن شاء الله..؟
لماذا لا تخبريني الآن عن السبب..؟ كما تشائين ، لكن حاولي.. أرجوك.
لم يكن هناك جديد في الحفلة، نفس النساء..(نفس الاهتمامات)، لدى الأغلبية. مضى أكثر من نصف الوقت، ولم تأت صديقتها هدى . بصفتها قريبة للعروس، فهي مطالبة بالتعبير عن الفرح.
- تعالي ارقصي يا أمل.
قريبات زوجها يطالبنها. تعدهن بابتسامة، وإيماءة من رأسها أنها ستفعل، لكن ليس الآن. وسط جموع النساء التي تملأ الصالة لاحظتها.. إنها صديقتها هدى، تتلفت، كأنما تبحث عنها، أشارت إليها، فأقبلت نحوها :
- السلام عليكم ، معذرة عن التأخير لكن ..
قاطعتها أمل :
- الحمد لله على السلامة .. ما الأمر..؟
- شقيقي عبدالرحمن في المستشفى، ولم أستطع أن آتي إلى هنا قبل أن أطمئن عليه ..
- سلامته ... مم يشكو ؟
- لقد وصل البارحة من ( سراييفو ) ، حيث كان ضمن وفد إغاثي في البوسنة ، وسقطت عليهم قذيفة صربية، وهم في دار لرعاية المرضى المسنين .
- وكيف حاله الآن..؟
- وضعه طيب ولله الحمد، لكن زميله، الذي أصيب معه، هو الذي حالته خطرة. يقول شقيقي إن القذيفة مزقت كلية زميله ، وحيث أنه بكلية واحدة ، فإن حالته خطرة جداً .
تساءلت أمل باستغراب :
- لماذا هو بكلية واحدة..؟
- لقد تبرع بكليته الأخرى لأحد أطفال زوجته ، الذي تعرض لفشل كلوي قبل عدة أشهر.
- لم أفهم...؟
- الشاب لا ينجب، وقد تزوج قبل أكثر من عام من امرأة أم أيتام، بعد طلاقه لزوجته الأولى .
شعرت أمل بألم يضغط على صدرها، وسألت هدى بوجل :
- ما اسم هذا الشاب ؟
- على ما أذكر..أحمد..
ردت بحدة :
- أحمد..! أحمد من يا هدى..؟
أمام استغراب هدى، قالت:
- أظنه " أحمد الوافي ".
قالت أمل بألم ، وهي تضغط على الكلمات :
- أحمد الوافي..؟
- نعم.. هل تعرفينه..؟
تلعثمت وردت بسرعة :
- لا.. لا، ثم همست في سرّها : "إلى أين يمضي هذا الرجل في تضحياته..؟" .
فـي هذه اللحظة كانت إحدى قريبات زوجها تسحبها من يدها، لتشاركهم في التعبير عن الفرح، شقت طريقها بين النساء، ووصلت حيث مطلوب منها أن ترقـص ، تعبيراً عن فرحتها. بدأت الزغاريد والاصوات ترتفع ، وتطلب من ضاربات الدفوف :
- ( طقوا لأمل.. طقوا لأمل ) ..
بدأت تتمايل ، مرة وثنتين وثلاث.. ثم سقطت وارتفع الصُّراخ .
انتهت القصة ، وأرجو أن تكون تحققت الفائدة المرجوة منها ، مع التذكير بأنها منقووووووووووولة
تحياتي،،،