السيدة أم سلمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم : نحن مع أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم ، بل وصحابية اليوم السيدة أم سلمة وهي زوج النبي عليه الصلاة والسلام ، ولقصتها عِبَر كثيرة ، ودلالات خطيرة ، وحقائق دقيقة .
فأم سلمة ؛ أبوها سيد من سادات مخزوم المرموقين ، وجواد من أجواد العرب المعدودين ، حتى إن أباها كان يسمى بين العرب زاد الراكب ، لكثرة عطائه ، وشدة كرمه ، وأمّا زوجها فعبد الله بن عبد الأسد أحد السابقين إلى الإسلام ، إذ لم يسلم قبله إلا أبو بكر الصديق ونفر قليلٌ لا يبلغون أصابع اليدين عدداً ، أما اسمها ، هند ، لكنها سميت أو كنيت ، الوجهان يصحان بأم سلمة ، ثم غلبت عليها الكنية ، هذه المرأة الفاضلة أسلمت مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام ، وهذه وقفة قصيرة لا بد منها .
أيها الإخوة : هذا كلام دقيق ، المرأة كالرجل تماماً ، هذا حكم الإسلام ، هذا حكم الدين ، المرأة كالرجل تماماً ، في التكليف ، وفي التشريف ، مكلفة بالإسلام كالرجل ، مكلفة بالإيمان كالرجل ، مكلفة بالفرائض كالرجل ، مشرِّفة عند الله كالرجل ، والأدلة على هذه الحقيقة في القرآن والسنة كثيرة جداً .
مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .( سورة النحل : 97 ) .
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ .( سورة آل عمران : 195 ) .
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً .( سورة الأحزاب : 35 ) .
من أجل أن نعتقد أن المرأة كالرجل تماماً في التكليف ، وفي التشريف ، إذاً أسلمت أم سلمة مع زوجها ، فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام .
يا أيها الإخوة الأكارم : من سعادة المرء في الدنيا أن تكون زوجته صالحة ، أن تكون زوجته مؤمنة كإيمانه ، سابقة إلى الإسلام كسبقه ، محبة لله كحبه ، طائعة لله كطاعته ، عبادة كعبادته ، لذلك أي رجل يهمل تعليم زوجته حقائق الدين وآيات القرآن الكريم يدفع الثمن باهظًا من سعادته الزوجية ، وليس أشقى في الحياة من أن تكون أنت في واد وزوجتك في واد آخر ، فأجمل البيوت الإسلامية ما كان فيها توافق بين الزوجين ، لأن الزوجة من أجل أن تقضي منها الوطر، فهذا شيء يخف بريقه مع الأيام ، والذي يبقى من الزوجة الإنسان ، المؤمن ، المتفهم ، الواعي، الذي يشاركك مشاعرك الدينية ، حبك لله عز وجل ، لذلك فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ *
(رواه مسلم)
لأنها تسعد زوجها ، أما ذات الدنيا تمتعه ولا أقول تسعده ، تمتعه إلى حين ، فأسعد المؤمنين من كانت زوجته على شاكلته ، عليه أن يجتهد في ترسيخ الإيمان في قلبها ، القضية بحسب الطلب ، ربنا عز وجل قال :
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)( سورة الأنبياء : 89 ـ 90 ) .
وأصلحنا له زوجه ، فالمسلم إن لم يكن متزوجاً ، عليه بذات الديـن ، وإن كان متزوجاً عليه بإصلاح زوجته ، بالإحسان تارة ، بالتوعية تارة ، بالتعليم تارة ، بالتكريم تارة ، بوسائل كثيرة جداً يراها الزوج مناسبة .
ما إن شاع إسلام أم سلمة وزوجها حتى هاجت قريش وماجت وجعلت تصب عليهما من نكالها ما يزلزل الصخور ، فلم يضعفا ، ولم يَهِنَا ، ولم يترددا .
يا إخوة الإيمان ، الصحابة الكرام دفعوا ثمن هذا الإسلام باهظاً ، حتى وصل إلينا ، دفعوا من راحتهم في الدنيا ، دفعوا من طمأنينتهم ، دفعوا من مستوى معيشتهم ، دفعوا من حبهم لأوطانهم ، كل هذا ضحوا به من أجل أن ينتشر الإسلام ، ولما اشتد عليهما الأذى ، وأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، كان عبد الله وأم سلمة من طليعة المهاجرين ، طبعاً أم سلمة من علية القوم ، حينما مضت مع زوجها إلى الحبشة خلفت وراءها بيتًا باذخاً ، وعزاً شامخاً ، ونسباً ، عريقاً ، محتسبة ذلك كله عند الله ، مستقلة ذلك في جنب الله.
يعني الإنسان إذا ما بذل ، يا بِشْر لا صدقة ولا جهاد فبمَ تلقى الله إذاً ، المسلم إن لم يبذل من جهده ، من ماله ، من راحته أحياناً ، من علاقاته الاجتماعية في سبيل الله ، فلن يصل إلى ما يرضه .
لقيت أم سلمة وزوجها من الملك الرحيم النجاشي ، نضر الله مثواه في الجنة ، عده بعض كتاب السيرة من التابعين ، لأنه كان أفضل مَن وَفَدَ إليه أصحاب النبي ، تتابعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض الحبشة ، من هذه الأخبار أن المسلمين قد كثر عددهم وأن حمزة بن عبد المطلب ، وعمر بن الخطاب قد أسلما ، وبإسلام هذين الرجلين الكبيرين اشتد أزر المسلمين ، وقويت شوكتهم فالأخبار إذاً طيبة ، الأخبار التي جاءت إلى المهاجرين في الحبشة كانت طيبة جداً ، لذلك عادت أم سلمة وزوجها إلى مكة ، بعد أن تلقيا أخباراً طيبة عن أن المسلمين قويت شوكتهم ، واشتد عودهم بإسلام عمر وحمزة ، وأن المسلمين كثر عددهم ، لكن سرعان ما اكتشفت أم سلمة وزوجها أنّ هذه الأخبار كان مبالغاً فيه ، وأن الوثبة التي وثبها المسلمون بعد إسلام عمر وحمزة قوبلت من قريشٍ بهجمة أكبر .
أحيانًا نفرح إذ يقولون : هناك صحوة إسلامية ، ولأن مع الصحوة في هجمة ، أبداً الهجمة تكافئ الصحوة ، يعني الله عز وجل ، هذه معركة أبدية ، معركة الحق والباطل ، معركة الخير والشر ، معركة الهدى والضلال ، معركة العقل مع الشهوة ، معركة القيم مع الحاجات ، هذه معركة أبدية ، فأي مشكلة تواجهها من هذا القبيل فهذه المشكلة تندرج مع هذه المعركة الأزلية بين الحق والباطل .
لذلك بالغ المشركون في تعذيب المسلمين ، وترويعهم ، فقد أذاقوهم من بأسهم ما لا عهد لهم به ، عند ذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة إلى المدينة ، فعزمت أم سلمة وزوجها على أن يكونا أول المهاجرين فراراً بدينهما من أذى قريش ، وكما هي العادة ندع الحديث الآن لمن ؟ لأم سلمة تحدثنا عن هجرتها ، والقصة مؤثرة جداً ، وفيها استنباطات رائعة، وحقائق دامغة .
تقول أم سلمة : لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة أعد لي بعيراً ثم حملني عليه ، وجعل طفلنا سلمة في حجري ، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء .
ذات مرة أحد لصوص الصحراء ، لصوص الخيل ، وقف على الرمل الذي يكاد يحترق من شدة أشعة الشمس ، فمر به فارس يمتطي فرسه ، هذا الفارس رق لهذا الإنسان البائس الذي ينتعل رمال الصحراء المحرقة ، فدعاه إلى ركوب الفرس معه ، وما إن ركب هذا اللص خلف صاحب الفرس ، حتى دفعه إلى الأرض ، وعدا بالفرس لا يلوي على شيء ، ذكرني بهذه القصة كلمة لا يلوي على شيء ، فناداه صاحب الفرس ، وقال : يا هذا وهبت لك الفرس ولن أَسْأل عنها بعد اليوم ، ولكن إياك أن يشيع هذا الخبر في الصحراء ، فإن شاع هذا الخبر تذهب المروءة من الصحراء ، وبذهاب المروءة يذهب أجمل ما فيها .
إذا أقرضَ إنسان إنسانًا مبلغًا ، وهذا المدين أكله على الدائن ، فأنا لا أتمنى أن يشيع هذا الخبر بين الناس ، وإذا أحسن إنسان إلى إنسان ، والذي أُحْسِنَ إليه أساء إساءة بالغة ، فلا أتمنى أن تشيع بين الناس ، لأنه كلما شاع بين الناس مثلُ هذه الإساءات ، أحجم الناس عن فعل الخير، وبالمناسبة في هذه بلدنا أكثر من سبعمائة ألف شقة فارغة ، هل هي أزمة سكن أم إسكان ؟ أزمة إسكان ، وليس هناك أزمة سكن لماذا ؟ لأن بعض الحوادث أو عشرات الحوادث زعزعت ثقة الإنسان بمَن يريد سكنًا للإيجار ، فنشأ ما يسمى بأزمة الإسكان ، لا أزمة السكن ، هذا الذي ذكره الله عز وجل :
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)( سورة الماعون : 1 ـ 7 ) .
ويمنعون الماعــون ، إذا أسأت إلى المحسن فقد منعت الماعون ، كلكم يذكر قبل حين أنه كان الإنسان إذا رأى مصاباً في حادث فلا أحد يسعفه إلى المستشفى ، لماذا ؟ لأن الذي يسعفه إلى المستشفى سوف يعتقل إلى أن تُكتشف حقيقة هذا الحادث ، فالإنسان إذا قام بإسعاف جريحٍ فإنه يبقى في السجن أيامًا عديدة حتى يكتشف أولو الأمر الحقيقة ، هي مشكلة كبيرة ، لذلك صار الإنسان يموت نزيفاً ولا أحد يسعفه إلى المستشفى ، إلى أن صدرت تعليمات جديدة بأن أحداً لن يسأل المسعف أبداً ، وإذا أسعفه وأوصله إلى المستشفى ، فالذي كان يضيِّق على هذا المسعف فقد مَنَعَ الماعون ، ومَنَعَ الخير ، فالمحسن إذا أسأت إليه أسأت إلى المجتمع بأسره ، لا إلى شخصه .
تقول هذه الصحابية الجليلة : لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة ، أعد لي بعيراً ثم حملني عليه ، وجعل طفلنا سلمة في حجري ، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء ، وقبل أن نفصل عن مكة ؛ أي نبتعد عن مكة ، رآنا رجال من قومي بني مخزوم فتصدوا لنا ، وقالوا لأبي سلمة إن كنت قد غلبتنا على نفسك ، فما بال امرأتك هذه وهي بنتنا فعلامَ نتركك تأخذها منا وتسير بها في البلاد ، ثم وثبوا عليه وانتزعوني منه انتزاعاً ، فرقوا بين عبد الله وبين زوجته أم سلمة ، وما إن رآهم قوم زوجي بنو عبد أسد يأخذونني أنا وطفلي حتى غضبوا أشد الغضب وقالوا لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعاً فهو ابننا ونحن أولى به ثم طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهد مني حتى خلعوا يده ، وأخذوه ، في وقت قصير فرق بين عبد الله وبين أم سلمة وبين سلمة ، هذه مأساة ، وفي لحظات ـ القول لأم سلمة ـ وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة فزوجي أتجه إلى المدينة فراراً بدينه ونفسه ، وولدي اختطفه بنو عبد أسد من بين يدي محطماً مهيضاً ؛ يعني مكسور الجناح ، أمَّا أنا فقد أستولي عليَّ قومي بنو مخزوم وجعلوني عندهم ، هذه من المآسي التي عاناها أصحاب رسول الله .
وهذا سؤال : لو أنّ رجلاً سأل نفسه : نحن ما عملنا لرفعة الإسلام ؟ والله يا أخي ما حضرتُ الدرسَ ، المواصلات صعبة ، لكنها الآن حُلَّتْ مشكلتها ، وكثرتْ سيارات النقل المتوسطة ، يتعلّل بأن المواصلات صعبة ، أهي صعوبة ، أنْ تأتي لحضور الدرس ؟ أهذه صعوبة هي ؟ فهل حصل لأحدٍ كما حصل لهذه المرأة الصحابية ؟.