منتدى عالم الأسرة والمجتمع

منتدى عالم الأسرة والمجتمع (http://www.66n.com/forums/index.php)
-   الثقافة الاسلامية (http://www.66n.com/forums/forumdisplay.php?f=2)
-   -   قراءة يومية في السيرة النبوية (http://www.66n.com/forums/showthread.php?t=267917)

صاحب فكرة 28-06-2016 09:28 AM

قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء الأول من لقاءات السيرة العطرة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ... وبعد
يسرني أن أقدم لكم هذه الدراسة في السيرة النبوية والتي نعيش فيها يوميا مع الحبيب صلى الله عليه وسلم ، حيث سنقرأ ما تيسر يوميا من كتاب (روضة الأنوار في سيرة النبي المختار) لفضيلة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري صاحب الكتاب المشهور (الرحيق المختوم ) وهو في السيرة أيضا ، وقد كنت أبحث عن مرجع في السيرة يجمع بين سلاسة الأسلوب مع الاختصار والتجرد ، وقد وجدت بغيتي في هذا الكتاب الذي وقع تحت يدي نسخة منه في أحد المساجد بطبعة وزارة الأوقاف والشئون الاسلامية بالمملكة العربية السعودية
وقد سميت الموضوع (مع الحبيب في روضة الأنوار) مقتبسا بعضا من إسم الكتاب
والآن أترككم في هذه الرياض النضرة مع الحبيب صلى الله عليه وسلم
محمد ـ صلي الله عليه وسلم - أصله ، ونشأته ، وأحواله قبل النبوة
النسب الشريف :
هو أكرم خلق الله ، وأفضل رسله ، وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
وعدنان من ذرية إسماعيل بن إبراهيم – عليهما السلام – بالاتفاق ، ولكن لم يعرف بالضبط عدد ولا أسماء من بينه وبين إسماعيل عليه السلام .
أما أمه - صلي الله عليه وسلم - فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب . وكلاب هو الجد الخامس للنبي - صلي الله عليه وسلم - من جهة أبيه ، فأبوه وأمه من أصل واحد ، يجتمعان في كلاب ، واسمه حكيم . وقيل : عروة لكنه كان كثير الصيد بالكلاب فعرف بها .

قبيلته - صلي الله عليه وسلم - :
وقبيلته - صلي الله عليه وسلم- هي قبيلة قريش المشهود لها بالشرف ، ورفعة الشأن ، والمجد الأصيل ، وقداسة المكان بين سائر العرب ، وهو لقب فهر بن مالك أو النضر بن كنانة .
وكل من رجالات هذه القبيلة كانوا سادات وأشرافاً في زمانهم ، وقد امتاز منهم قصي – واسمه زيد – بعدة ميزات ، فهو أول من تولى الكعبة من قريش ، فكانت إليه حجابتها وسدانتها ، أي كان بيده مفتاح الكعبة يفتحها لمن شاء ومتى شاء ، وهو الذي أنزل قريشاً ببطن مكة ، وأسكنهم في داخلها ، وكانوا قبل ذلك في ضواحيها وأطرافها ، متفرقين بين قبائل أخرى ، وهو الذي أنشأ السقاية والرفادة . والسقاية . ماء عذب من نبيذ التمر أو العسل أو الزبيب ونحوه ، كان يعده في حياض من الأديم يشربه الحجاج . والرفادة : طعام كان يصنع لهم في الموسم . وقد بنى قصي بيتاً بشمالي الكعبة ، عرف بدار الندوة . وهي دار شورى قريش ، ومركز تحركاتهم الاجتماعية ، فكان لا يعقد نكاح ، ولا يتم أمر إلا في هذه الدار ، وكان بيده اللواء والقيادة ، فلا تعقد راية حرب إلا بيده ، وكان كريماً وافر العقل ، صاحب كلمة نافذة في قومه .


صاحب فكرة 29-06-2016 08:02 AM

رد: مع الحبيب في روضة الأنوار
 
اللقاء الثاني من لقاءات السيرة العطرة

أسرته - صلي الله عليه وسلم - :
أما أسرته - صلي الله عليه وسلم - فتعرف بالأسرة الهاشمية ، نسبة إلى جدة الثاني هاشم ، وقد ورث هاشم من مناصب قصي : السقاية والرفادة ، ثم ورثهما أخوه المطلب ، ثم أولاد هاشم إلى أن جاء الإسلام وهم على ذلك ، وكان هاشم أعظم أهل زمانه ، كان يهشم الخبز ، أي يفتته في اللحم ، فيجعله ثريداً ، ثم يتركه يأكل الناس ، فلقب بهاشم ، واسمه عمرو . وهو الذي سن الرحلتين : رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ، وكان يعرف بسيد البطحاء .
ومن حديثه : أنه مر بيثرب ، وهو في طريق تجارته إلى الشام ، فتزوج سلمى بنت عمرو من بني عدي بن النجار ، وأقام عندها فترة ، ثم مضى إلى الشام وهي حامل ، فمات بغزة من أرض فلسطين ، وولدت سلمى ابناً بالمدينة سمته : شيبة ، لشيب في رأسه ، ونشأ هذا الطفل بين أخواله في المدينة ، ولم يعلم به أعمامه بمكة حتى بلغ نحو سبع سنين أو ثماني سنين ، ثم علم به عمه المطلب ، فذهب به إلى مكة ، فلما رآه الناس ظنوه عبده فقالوا : عبد المطلب ، فاشتهر بذلك .
وكان عبد المطلب أوسم الناس ، وأجملهم ، وأعظمهم قدراً . وقد شرف في زمانه شرفاً لم يبلغه أحد ، كان سيد قريش وصاحب عير مكة ، شريفاً مطاعاً جواداً يسمى بالفياض لسخائه ، كان يرفع من مائدته للمساكين والوحوش والطيور ، فكان يلقب بمطعم الناس في السهل ، والوحوش والطيور في رؤوس الجبال . قد تشرف بحفر بئر زمزم بعد أن كان قد درسها جرهم عند جلائهم عن مكة ، وكان قد أمر بحفرها في المنام ، ووصف له موضعها فيه .
وفي عهده وقعت حادثة الفيل ، جاء أبرهة الأشرم من اليمن بستين ألف جندي من الأحباش ، ومعه بعض الفيلة ، ليهدم الكعبة ، فلما وصل إلى وادي محسر بين المزدلفة ومنى ، وتهيأ للهجوم على مكة أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول ، وكان ذلك قبل مولد النبي - صلي الله عليه وسلم - بأقل من شهرين فقط .
أما والده - صلي الله عليه وسلم - عبدالله فكان أحسن أولاد عبد المطلب ، وأعفهم ، وأحبهم إليه ، وهو الذبيح ، وذلك أن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم ، وبدت آثارها نازعته قريش ، فنذر لئن آتاه الله عشرة أبناء ، وبلغوا أن يمنعوه ، ليذبحن أحدهم . فلما تم له ذلك أقرع بين أولاده ، فوقعت القرعة على عبدالله ، فذهب إلى الكعبة ليذبحه ، فمنعته قريش ، ولا سيما إخوانه وأخواله ، ففداه بمائة من الإبل ، فالنبي - صلي الله عليه وسلم - ابن الذبيحين : إسماعيل – عليه السلام –وعبد الله ، وابن المفديين ، فدي إسماعيل – عليه السلام – بكبش ، وفدي عبد الله بمائة من الإبل .
واختار عبد المطلب لابنه عبد الله آمنه بنت وهب ، وكانت أفضل نساء قريش شرفاً وموضعاً ، وكان أبوها وهب سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، فتمت الخطبة والزواج ، وبنى بها عبد الله بمكة فحملت برسول الله - صلي الله عليه وسلم - .
وبعد فترة أرسله عبد المطلب إلى المدينة – أو الشام في تجارة – فتوفي بالمدينة – راجعاً من الشام – ودفن في دار النابغة الذبياني ، وذلك قبل ولادته - صلي الله عليه وسلم - على الأصح .



صاحب فكرة 29-06-2016 10:45 PM

رد: مع الحبيب في روضة الأنوار
 
اللقاء الثالث من لقاءات السيرة العطرة

المولد :
ولد رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بشعب بني هاشم في مكة ، صبيحة يوم الاثنين ، التاسع – ويقال : الثاني عشر – من شهر ربيع الأول عام الفيل – والتاريخ الأول أصح والثاني أشهر – وهو يوافق اليوم الثاني والعشرون من شهر أبريل سنة 571م .
وكانت قابلته أي دايته : الشفاء بنت عمرو أم عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه - ولما ولدته أمه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام . وأرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بولادته - صلي الله عليه وسلم - فجاء عبد المطلب مستبشراً مسروراً ، وحمله ، فأدخله الكعبة ، وشكر الله ، ودعاه ، وسماه محمداً ، رجاء أن يحمد ، وعق عنه ، وختنه يوم سابعه ، وأطعم الناس كما كان العرب يفعلون .
وكانت حاضنته أم أيمن : بركة الحبشية ، مولاة والده عبد الله ، وقد بقيت حتى أسلمت ، وهاجرت ، وتوفيت بعد النبي - صلي الله عليه وسلم - بخمسة أشهر ، أو بستة أشهر .

الرضــاع :
وأول من أرضعته - صلي الله عليه وسلم - بعد أمه ثويبة : مولاة أبي لهب بلبن ابن لها ، يقال له مسروح ، وكانت قد أرضعت قبله - صلي الله عليه وسلم - حمزة بن عبد المطلب وبعده - صلي الله عليه وسلم - أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، فهم إخوته - صلي الله عليه وسلم - من الرضاعة .
وقد أعتق أبو لهب أمته هذه فرحاً بولادة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ولكنه صار من ألد أعدائه حينما قام بالدعوة إلى الإسلام .

في بني سعد :
كان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ، إبعاداً لهم عن أمراض الحواضر حتى تشتد أعصابهم ، وليتقنوا اللسان العربي في مهدهم .
وقدر الله أن جاءت نسوة من بني سعد بن بكر بن هوزان يطلبن الرضعاء فعرض النبي - صلي الله عليه وسلم - عليهن كلهن ، فأبين أن يرضعنه لأجل يتمه . ولم تجد إحدى النسوة – وهي حليمة بنت أبي ذويب – رضيعاً فأخذته - صلي الله عليه وسلم - وحظيت به حظوة اغتبط لها الآخرون .
واسم أبي ذويب والد حليمة : عبد الله بن الحارث ، واسم زوجها : الحارث ابن عبد العزى ، وكلاهما من بني سعد بن بكر بن هوازن . وأولاد الحارث بن عبد العزى ، إخوته - صلي الله عليه وسلم - من الرضاعة هم : عبد الله وأنيسة وجدامة ، وهي الشيماء ، لقب غلب على اسمها ، وكانت تحضن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -

بركات في بيت الرضاعة :
وقد درت البركات على أهل هذا البيت مدة وجوده - صلي الله عليه وسلم - بينهم .
ومما روي من هذه البركات : أن حليمة لما جاءت إلى مكة كانت الأيام أيام جدب وقحط ، وكانت معها أتان كانت أبطأ دابة في الركب مشياً لأجل الضعف والهزال ، وكانت معها ناقة لا تدر بقطرة من لبن ، وكان لها ولد صغير يبكي ويصرخ طول الليل لأجل الجوع ، ولا ينام ، ولا يترك أبويه ينامان .
فلما جاءت حليمة بالنبي - صلي الله عليه وسلم - إلى رحلها ، ووضعته في حجرها أقبل عليه ثدياها بما شاء من لبن ، فشرب حتى روي ، وشرب معه ابنها الصغير حتى روى ، ثم ناما .
وقام زوجها إلى الناقة فوجدها حافلاً باللبن ، فحلب منها ما انتهيا بشربه رياً وشبعاً ، ثم باتا بخير ليلة .
ولما خرجا راجعين إلى بادية بني سعد ركبت حليمة تلك الأتان ، وحملت معها النبي - صلي الله عليه وسلم - فأسرعت الأتان حتى قطعت بالركب ، ولم يستطع لحوقها شئ من الحمر .
ولما قدما في ديارهما : ديار بني سعد – وكان أجدب أرض الله – كانت غنمهما تروح عليهما شباعاً ممتلئة الخواصر بالعلف ، ممتلئة الضروع باللبن . فكانا يحلبان ويشربان ، وما يحلب إنسان قطرة لبن .
فلم يزالا يعرفان من الله الزيادة والخير حتى اكتملت مدة الرضاعة ومضت سنتان ففطمته حليمة ، وقد اشتد وقوي في هذه الفترة .


صاحب فكرة 02-07-2016 12:48 PM

رد: مع الحبيب في روضة الأنوار
 
اللقاء الرابع من لقاءات السيرة العطرة
بقاء النبي صلي الله عليه وسلم - في بني سعد بعد الرضاعة :
وكانت حليمة تأتي بالنبي - صلي الله عليه وسلم - إلى آمه وأسرته كل ستة أشهر ، ثم ترجع به إلى باديتها في بني سعد ، فلما اكتملت مدة الرضاعة وفطمته ، وجاءت به إلى أمه حرصت على بقائه - صلي الله عليه وسلم - عندها ، لما رأت من البركة والخير . فطلبت من أم النبي - صلي الله عليه وسلم - أن تتركه عندها حتى يغلظ ، فإنها تخاف عليه وباء مكة ، فرضيت أمه - صلي الله عليه وسلم - بذلك ، ورجعت به حليمة إلى بيتها مستبشرة مسرورة ، وبقي النبي - صلي الله عليه وسلم - عندها بعد ذلك نحو سنتين ، ثم وقعت حادثة غريبة أحدثت خوفاً في حليمة وزوجها حتى ردا النبي - صلي الله عليه وسلم - إلى أمه . وتلك الحادثة هي شق صدره - صلي الله عليه وسلم - وإليكم بيان ذلك .

شق الصدر :
قال أنس بن مالك رضي الله عنه - : إن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه . فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال : هذا حظ الشيطان منك . ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه – أي ضمه وجمعه – ثم أعاده في مكانه .
وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني ظئره ( وهي المرضعة ) – فقالوا إن محمداً قد قتل . فاستقبلوه وهو منتقع اللون . أي متغير اللون .
قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره .

إلى أمه الحنون :
ورجع النبي - صلي الله عليه وسلم - بعد هذا الحادث إلى مكة ، فبقي عند أمه وفي أسرته نحو سنتين ، ثم سافرت معه أمه إلى المدينة ، حيث قبر والده وأخوال جده بنو عدي بن النجار ، وكان معها قيمها عبد المطلب ، وخادمتها أم أيمن ، فمكثت شهراً ثم رجعت ، وبينما هي في الطريق لحقها المرض ، واشتد حتى توفيت بالأبواء بين مكة والمدينة ، ودفنت هناك .
إلى جده العطوف :
وعاد به - صلي الله عليه وسلم - جده عبد المطلب إلى مكة ، وهو يشعر بأعماق قلبه شدة ألم المصاب الجديد . فرق عليه رقة لم يرقها إلى أحد من أولاده ، فكان يعظم قدره ، ويقدمه على أولاده ، ويكرمه غاية الإكرام ، ويجلسه على فراشه الخاص الذي لم يكن يجلس عليه غيره . ويمسح ظهره ، ويسر بما يراه يصنع . ويعتقد أن له شأناً عظيماً في المستقبل ، ولكنه توفي بعد سنتين حين كان عمره - صلي الله عليه وسلم - ثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام .

إلى عمه الشفيق :
وقام بكفالته - صلي الله عليه وسلم - عمه أبو طالب شقيق أبيه ، واختصه بفضل الرحمة والمودة ، وكان مقلا من المال . فبارك الله في قليله ، حتى كان طعام الواحد يشبع جميع أسرته ، وكان الرسول - صلي الله عليه وسلم - مثال القناعة والصبر ، يكتفي بما قدر الله له .

سفره إلى الشام وبحيرا الراهب :
وأراد أبو طالب أن يخرج بتجارة إلى الشام في عير قريش ، وكان عمره - صلي الله عليه وسلم - اثنتي عشرة سنة – وقيل : وشهرين وعشرة أيام – فاستعظم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فراقه ، فرق عليه وأخذه معه ، فلما نزل الركب قريباً من مدينة بصرى على مشارف الشام خرج إليهم أحد كبار رهبان النصارى – وهو بحيرا الراهب – فتخلل في الركب حتى وصل إلى النبي - صلي الله عليه وسلم - فأخذ بيده ، وقال
" هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين " .
قالوا : وما علمك بذلك ؟
قال : "إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجداً ، ولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، وإنا نجده في كتبنا " .
ثم أكرمهم بالضيافة ، وسأل أبا طالب ، أن يرده ولا يقدم به إلى الشام خوفاً من اليهود والرومان ، فرده أبو طالب إلى مكة .

صاحب فكرة 02-07-2016 11:31 PM

رد: مع الحبيب في روضة الأنوار
 
اللقاء الخامس من لقاءات السيرة العطرة

حرب الفجار :
وحين كان عمره – صلى الله عليه وسلم - عشرين سنة – وقعت في سوق عكاظ حرب بين قبائل قريش وكنانة من جهة ، وبين قبائل قيس عيلان من جهة أخرى . اشتد فيها البأس ، وقتل عدد من الفريقين ، ثم اصطلحوا على أن يحصوا قتلى الفريقين ، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد ، ووضعوا الحرب ، وهدموا ما وقع بينهم من العداوة والشر .
وقد حضر هذه الحرب رسول لله - صلى الله عليه وسلم - وكان ينبل على أعمامه ، أي يجهز لهم النبل للرمي .
وسميت هذه الحرب بحرب الفجار لأنهم انتهكوا فيها حرمة حرم مكة والشهر الحرام ، والفجار أربعة : كلها في سنة ، وهذه آخرها ، وانتهت الثلاثة الأولى بعد خصام وأشتجار طفيف ، ولم يقع القتال إلا في الرابع فقط .

حلف الفضول :
وفي شهر ذي القعدة على إثر هذه الحرب تم حلف الفضول بين خمسة بطون من قبيلة قريش وهم : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وبنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو تيم .
وسببه أن رجلاً من زبيد جاء بسلعة إلى مكة ، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي ، وحبس عنه حقه ، فاستعدي عليه بني عبد الدار ، وبني مخزوم ، وبني جمح ، وبني سهم ، وبني عدي ، فلم يكترثوا له ، فعلا جبل أبي قبيس ، وذكر ظلامته في أبيات ، ونادى من يعينه على حقه ، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في دار عبد الله بن جدعان رئيس بني تيم ، وتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته ، ثم قاموا إلى العاص بن وائل السهمي ، فانتزعوا منه حق الزبيدي ، ودفعوه إليه .
وقد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحلف مع أعمامه ، وقال بعد أن شرفه الله بالرسالة: " لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " .

حياة العمل :
معلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد يتيماً ونشأ في كفالة جده ثم عمه ، ولم يرث عن أبيه شيئاً يغنيه ، فلما بلغ سنا يمكن العمل فيه عادة رعى الغنم مع إخوته من الرضاعة في بني سعد ، ولما رجع ؟إلى مكة رعاها لأهلها على قراريط ، والقيراط جزء يسير من الدينار : نصف العشر أو ثلث الثمن منه . قيمته في هذا الزمان عشرة ريالات تقريباً .
ورعى الغنم من سنن الأنبياء في أوائل حياتهم . فقد قال - صلى الله عليه وسلم - مرة بعد أن أكرمه الله بالنبوة : " ما من نبي إلا ورعاها " .
ولما شب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلغ الفتوة فكأنه كان يتجر ، فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب ، فكان خير شريك له ، لا يجاري ولا يماري .
وعرف - صلى الله عليه وسلم - في معاملاته بغاية الأمانة والصدق والعفاف . وكان هذا هديه - صلى الله عليه وسلم - في جميع مجالات الحياة حتى لقب بالأمين .

سفره إلى الشام وتجارته في مال خديجة :
وكانت خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها - من أفضل نساء قريش شرفاً ومالاً ، وكانت تعطي مالها للتجار يتجرون فيه على أجرة ، فلما سمعت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرضت عليه مالها ليخرج فيه إلى الشام تاجراً ، وتعطيه أفضل ما أعطته غيره .
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع غلامها ميسرة إلى الشام ، فباع وابتاع وربح ربحاً عظيماً ، وحصل في مالها من البركة ما لم يحصل من قبل ، ثم رجع إلى مكة ، وأدى الأمانة

زواجه بخديجة :
ورأت خديجة من الأمانة والبركة ما يبهر القلوب ، وقص عليها ميسرة ما رأى في النبي - صلى الله عليه وسلم - من كرم الشمائل وعذوبة الخلال – يقال : وبعض الخوارق ، مثل تظليل الملكين له في الحر – فشعرت خديجة بنيل بغيتها فيه . فأرسلت إليه إحدى صديقاتها تبدى رغبتها في الزواج به ، ورضي النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وكلم أعمامه ، فخطبوها له إلى عمها عمرو بن أسد ، فزوجها عمها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في محضر من بني هاشم ورؤساء قريش على صداق قدره عشرون بكرة ، وقيل ست بكرات ، وكان الذي ألقى خطبة النكاح هو عمه أبو طالب : فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم ذكر شرف النسب وفضل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ذكر كلمة العقد وبين الصداق .
تم هذا الزواج بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من الشام بشهرين وأيام ، وكان عمره إذ ذاك خمساً وعشرين سنة ، أما خديجة فالأشهر أن سنها كانت أربعين سنة . وقيل : ثمان وعشرين سنة ، وقيل غير ذلك ، وكانت أولاً متزوجة بعتيق بن عائذ المخزومي ، فمات عنها ، فتزوجها أبو هالة التيمي ، فمات عنها أيضاً بعد أن ترك له منها ولداً ، ثم حرص على زواجها كبار رؤساء قريش فأبت حتى رغبت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجت به . فسعدت به سعادة يغبط عليها الأولون والآخرون .
وهي أول أزواجه - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت ، وكل أولاده - صلى الله عليه وسلم - منها إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية .

أولاده - صلى الله عليه وسلم - من خديجة :
هم : القاسم ، ثم زينب ، ثم رقية ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم عبدالله ، وقيل غير ذلك في عددهم وترتيبهم ، وقد مات البنون كلهم صغاراً . أما البنات فقد أدركن كلهن زمن النبوة ، فأسلمن وهاجرن ، ثم توفاهن الموت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا فاطمة رضي الله عنها ، فإنها عاشت بعده - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر .



صاحب فكرة 03-07-2016 06:15 PM

رد: مع الحبيب في روضة الأنوار
 
اللقاء السادس من لقاءات السيرة العطرة
بناء البيت وقصة التحكيم :
ولما بلغت سنه – صلى الله عليه وسلم - خمساً وثلاثين سنة جاء سيل جارف صدع جدران الكعبة . وكانت قد وهنت من قبل لأجل حريق ، فاضطرت قريش إلى بنائها من جديد ، وقرروا أن لا يدخلوا في نفقتها إلا طيباً ، فلا يدخلوا فيها مهر بغى ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد ، وهابوا عقاب الله على هدمها ، فقال الوليد بن المغيرة : إن الله لا يهلك المصلحين ، ثم بدأ يهدم ، فتبعوه في هدمها حتى وصلوا بها إلى قواعد إبراهيم .
ثم أخذوا في بناءها وخصصوا لكل قبيلة جزءاً منها ، وكان الأشراف يحملون الحجارة على أعناقهم ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمه العباس فيمن يحمل . وتولى البناء بناء رومي اسمه : باقوم . وضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامها على قواعد إبراهيم ، فأخرجوا منها نحو ستة أذرع من جهة الشمال ، وبنوا عليها جداراً قصيراً علامة أنه من الكعبة . وهذا الجزء هو المعروف بالحجر والحطيم
ولما وصل البنيان إلى موضع الحجر الأسود أراد كل رئيس أن يتشرف بوضعه في مكانه ، فوقع بينهم التنازع والخصام ، واستمر أربعة أيام أو خمسة ، وكاد يتحول إلى حرب . دامية في الحرم ، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي تداركها بحكمة – وكان أسن رجل في قريش – فاقترح عليهم أن يحكموا أول رجل يدخل عليهم من باب المسجد ، فقبلوا ذلك ، واتفقوا عليه .
وكان من قدر الله أن أول من دخل بعد هذا القرار هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوه هتفوا ، وقالوا : هذا الأمين رضيناه ، هذا محمد . فلما انتهى إليهم ، وأخبروه الخبر ، أخذ رداءً ، ووضع فيه الحجر الأسود ، وأمرهم أن يمسك كل واحد منهم بطرف من الرداء ويرفعه ، فلما وصل الحجر الأسود إلى موضعه أخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ووضعه في مكانه . وكان حلاً حصيفاً رضي به الجميع
والحجر الأسود يرتفع عن أرض المطاف متراً ونصف متر . أما الباب فقد رفعوه نحو مترين حتى لا يدخل إلا من أرادوا وأما الجدران فرفعوها ثمانية عشر ذراعاً ، وكانت على نصف من ذلك ، ونصبوا في داخل الكعبة ستة أعمدة في صفين ثم سقفوها على ارتفاع خمسة عشر ذراعاً وكانت من قبل بدون سقف ولا عمود .
سيرته - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة :
نشأ - صلى الله عليه وسلم - منذ صباه سليم العقل ، وافر القوى ، نزيه الجانب ، فترعرع ، وشب ، ونضج ، وهو جامع للصفات الحميدة والشيم النبيلة ، فكان طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب والنظر السديد ، ومثالاً نهائياً في مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال ، امتاز بالصدق والأمانة ، والمروءة ، والشجاعة ، والعدل ، والحكمة ، والعفة ، والزهد ، والقناعة ، والحلم ، والصبر والشكر ، والحياء والوفاء ، والتواضع والتناصح . وكان على أعلى قمة من البر والإحسان كما قال عمه أبو طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكان وصولاً للرحم ، حمولاً لما يثقل كواهل الناس ، يساعد من أعدم العيش حتى يصيب الكسب ، وكان يقري الضيف ، وبغض إليه ما كان في قومه من خرافة وسوء ، فلم يشهد أعياد الأوثان واحتفالات الشرك ، ولم يأكل مما ذبح على النصب أو أهل به لغير الله .وكان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى فضلاً عن مس الأصنام أو التقرب إليها .
وكان أبعد الناس من شرب الخمر وشهود الملاهي حتى لم يحضر مجالس اللهو والسمر ونواديها التي كانت منتزه الشباب وملتقى الأحبة في مكة .
النـبـــوة والدعــــــوة
مقدمات النبوة وتباشير السعادة :
وبما تقدم ذكره اتسعت الشقة الفكرية والعلمية بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قومه ، وطفق يقلق مما يراهم عليه من الشقاوة والفساد ، ويرغب في الاعتزال عنهم والخلوة بنفسه مع تفكيره في سبيل ينجيهم من التعاسة والبوار .
واشتد هذا القلق ، وقويت هذه الرغبة مع تقدم السن حتى كأن حادياً يحدوه إلى الخلوة والانقطاع . فأخذ يخلو بغار حراء، يتعبد الله فيه على بقايا دين إبراهيم – عليه السلام – وذلك من كل سنة شهراً . وهو شهر رمضان ، فإذا قضى جواره بتمام هذا الشهر انصرف إلى مكة صباحاً ، فيطوف بالبيت ، ثم يعود إلى داره ، وقد تكرر ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنوات .
فلما تكامل له أربعون سنة – وهي سن الكمال ، ولها بعثت الرسل غالباً – بدأت طلائع النبوة وتباشير السعادة في الظهور ، فكان يرى رؤيا صالحة تقع كما يرى ، وكان يرى الضوء ويسمع الصوت (أي صوت الهاتف من الملائكة ولكنه لايرى شيئا)
وقال :" إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث " .

صاحب فكرة 12-07-2016 10:19 PM

رد: مع الحبيب في روضة الأنوار
 
اللقاء السابع من لقاءات السيرة العطرة
بداية النبوة ونزول الوحي :
فلما كان في رمضان من السنة الحادية والأربعين وهو معتكف بغار حراء ، يذكر الله ويعبده ، فجئه جبريل – عليه السلام – بالنبوة والوحي ، ولنستمع إلى عائشة – رضي الله عنه – تروي لنا هذه القصة بتفاصيلها ، قالت عائشة – رضي الله عنها -:
أول ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث – أي يتعبد – فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ
قال : فأخذني ، فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ . فأخذني ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني . فغطني الثالثة . ثم أرسلني فقال : } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )سورة العلق.
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد – رضى الله عنها – فقال : زملوني . فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة – وأخبرها الخبر -: لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا ، والله ما يخزيك الله أبداً . أنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي ، ابن عم خديجة ، وكان امرأًً تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً قد عمى .
فقالت له خديجة : يا ابن العم اسمع من ابن أخيك .
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى .
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى . يا ليتني فيها جزعاً – أي قوياً جلداً – ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أو مخرجي هم ؟
قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً
ثم لم يلبث ورقة أن توفى ، وفتر الوحي .

تاريخ بدء النبوة ونزول الوحي :
تلك هي القصة بداية النبوة ونزول الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأول مرة ، وقد كان ذلك في رمضان في ليلة القدر ، قال الله تعالى -:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ { الآية 185 سورة البقرة وقال : }إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) سورة القدر وقد أفادت الأحاديث الصحيحة أن ذلك كان ليلة يوم الاثنين قبل أن يطلع الفجر .
وحيث إن ليلة القدر تقع في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان ، وقد ثبت علمياً أن يوم الاثنين في رمضان من تلك السنة إنما بدأت في الليلة الحادية والعشرين من رمضان سنة إحدى وأربعين من مولده - صلى الله عليه وسلم - وهي توافق اليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610م وكان عمره - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة أشهر واثنى عشر يوماً . وهو يساوي تسعاً وثلاثين سنة شمسية وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً ، فكانت بعثته على رأس أربعين سنة شمسية .

فترة الوحي ثم عودته :
وكان الوحي قد فتر وانقطع بعد أول نزوله في غار حراء – كما سبق – ودام هذا الانقطاع أياماً ، وقد أعقب ذلك في النبي - صلى الله عليه وسلم - شدة الكآبة والحزن ، ولكن المصلحة كانت في هذا الانقطاع ، فقد ذهب عنه الروع ، وتثبت من أمره ، وتهيأ لاحتمال مثل ما سبق حين يعود ، وحصل له التشوف والانتظار ، وأخذ يرتقب مجئ الوحي مرة أخرى .
وكان - صلى الله عليه وسلم - قد عاد من عند ورقة بن نوفل إلى حراء ليواصل جواره في غاره ، ويكمل ما تبقى من شهر رمضان ، فلما انتهى شهر رمضان وتم جواره نزل من حراء صبيحة غرة شوال ليعود إلى مكة حسب عادته .
قال - صلى الله عليه وسلم - : فلما استبطنت الوادي- أي دخلت في بطنه – نوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ، ونظرت إلى شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فإذا الملك جاءني بحراْ جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجئثت منه رعباً حتى هويت إلى الأرض ، فأتيت خديجة ، فقلت : زملوني ، زملوني ، دثروني ، وصُبوا على ماء بارداً ، فدثروني وصبوا على ماء بارداً ، فنزلت ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{1} قُمْ فَأَنذِرْ{2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ{3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ{4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) سورة المدثر.
وذلك قبل أن تفرض الصلاة ثم حمي الوحي وتتابع .
وهذه الآيات هي بدء رسالته - صلى الله عليه وسلم - وهي متأخرة عن النبوة بمقدار فترة الوحي ، وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه :
أما النوع الأول فهو تكليفه - صلى الله عليه وسلم - بالبلاغ والتحذير ، وذلك في قوله تعالى : } قُمْ فَأَنذِرْ { . فإن معناه : حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هما فيه من الغي والضلال ، وعبادة غير الله المتعال ، والإشراك به في الذات والصفات والحقوق والأفعال .
وأما النوع الثاني فتكليفه - صلى الله عليه وسلم - بتطبيق أوامر الله – سبحانه وتعالى – والالتزام بها في نفسه ، ليحذر بذلك سخط الله ، ويصير أسوة لمن آمن بالله . وذلك في بقية الآيات ، فقوله : } وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {. معناه : خصه بالتعظيم ، ولا تشرك به في ذلك أحداً غيره ، وقوله : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . المقصود الظاهر منه تطهير الثياب والجسد ، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجساً مستقذراً ، وقوله :
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ :معناه . ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه ، وذلك بطاعته وترك معصيته ، وقوله : وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ . أي لا تحسن إحساناً تريد أفضل منه في هذه الدنيا .
أما الآية الأخيرة فأشار فيها إلى ما يلحقه من أذى قومه ، حين يفارقهم في الدين ، ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده ، فقال : وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ .



صاحب فكرة 13-07-2016 09:15 PM

رد: مع الحبيب في روضة الأنوار
 

اللقاء الثامن من لقاءات السيرة العطرة
القيام بالدعوة :
وقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم - على أثر نزول هذه الآيات بالدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى – وحيث أن قومه كانوا جفاة لا دين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان ، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك ، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة ، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف ، فقد اختار الله أن يقوم بالدعوة سراً ، ولا يواجه بها إلا من يعرفه بالخير وحب الحق ، ويثق به ويطمئن إليه ، وان يقدم أهله وعشيرته وأصدقاءه وندماءه على غيرهم .
الرعيل الأول :
فلما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته بادر إلى الإيمان به عدد ممن كتب الله له السبق إلى السعادة والخير .
1- وكانت أولهم على الإطلاق أم المؤمنين خديجة بنت خويلد – رضي الله تعالى عنها - ، وكانت قد علمت البشارات ، وسمعت عن الإرهاصات ، وأبصرت ملامح النبوة ، وشاهدت تباشير الرسالة ، وتوقعت أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو نبي هذه الأمة ، ثم تأكد لها من حديث ورقة ان الذي نزل في حراء هو جبريل – عليه السلام – وأن الذي جاء به هو وحي النبوة ، ثم شاهدت بنفسها ما مر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول أول المدثر ، فكان من الطبيعي أن تكون هي أول المؤمنين .
2- وبادر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صديقه الحميم أبي بكر الصديق – رضي الله عنه - ليخبره بما أكرمه الله به من النبوة والرسالة ، ويدعوه إلى الإيمان به ، فآمن أول من أمن به على الإطلاق أومن من الرجال ، وكان أصغر منه - صلى الله عليه وسلم - بسنتين ، وصديقاً له منذ عهد قديم ، عارفاً بسره وعلانيته ، فكان إيمانه أعدل شاهد على صدقه - صلى الله عليه وسلم - .
3- ومن أول من آمن به على بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان تحت كفالته - صلى الله عليه وسلم - مقيماً عنده ، يطعمه ويسقيه ، ويقوم بأمره ، لأن قريشاً أصابتهم مجاعة ، وكان أبو طالب مقلاً كثير الأولاد ، فكفل العباس ابنه جعفراً ، وكفل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا ، فكان كأحد أولاده إلى أن جاءت النبوة وقد ناهز البلوغ ، -يقال :كان عمره عشر سنين – وكان يتبعه في كل أعماله ، فلما دعاه إلى الإسلام أجاب إليه ، وهو أول من آمن به من الصبيان .
4- ومن أول من آمن به مولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي ، كان قد أسر أيام الجاهلية وبيع ، فاشتراه حكيم بن حزام . ووهبه لعمته خديجة ، فوهبته خديجة لرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلم به أبوه وعمه فجاءا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلماه ليحسن إليهما في فدائه ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيداً ، وخيره بين أن يذهب مع أبيه وعمه وبين أن يبقى عنده ، فاختاره عليهما ، وعندئذ ذهب رسول الله إلى الملأ من قريش ، وقال : اشهدوا أن هذا ابني وارثاً وموروثاً، وذلك قبل النبوة ، فكان يدعى زيد بن محمد حتى جاء الإسلام وأبطل التبني ، فدعي زيد بن الحارثة .
هؤلاء الأربعة كلهم أسلموا في يوم واحد ، يوم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإنذار ، وقام بالدعوة إلى الله ، وقد قيل عن كل واحد منهم إنه أول من أسلم .
ثم نشط للدعوة إلى الله أبو بكر - رضي الله عنه - وصار الساعد الأيمن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مهمة رسالته ، وكان رجلاً عفيفاً ، مألفاً محبباً ، سهلاً كريماً ، جواداً ، معظماً ، أعلم الناس بأنساب العرب وأخبارها ، يقصده رجال قومه لخلقه ومعروفه ، وعلمه وفضله ، وتجارته وجوده ، وحسن معاملته ومجالسته . فدعا إلى الإسلام من توسم فيه الخير ووثق به من قومه ، فأجابه جمع من فضلاء الناس ، في مقدمتهم عثمان بن عفان الأموي ، والزبير بن العوام الأسدي ، وعبد الرحمن بن عوف الزهري ، وسعد بن أبي وقاص الزهري ، وطلحة بن عبيد الله التيمى ، بين لهم أبو بكر - رضي الله عنه - الإسلام ، وأتى بهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا جميعاً .
ثم تلا هؤلاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة ، والأرقم بن أبي الأرقم ، وعثمان بن مظعون ، وأخواه قدامة وعبدالله ابنا مظعون ، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، وسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل ، وامرأته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب ، وخباب بن الأرت ، وجعفر بن أبي طالب ، وامرأته بنت عميس ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وحاطب بن حارث ، وامرأته فاطمة بنت المجلل ، وأخوه حطاب بن حارث ، وامرأته فكيهة بنت أبي عوف ، ونعيم بن عبد الله بن أسيد النحام ، وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش.
ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش : عبدالله بن مسعود الهذلي ، ومسعود بن ربيعة القاري ، وعبدالله بن جحش ، وأخوه أبو أحمد بن جحش ، وصهيب بن سنان الرومي ، وعمار بن ياسر العنسي ، وأبوه ياسر ، وأمه سمية ، وعامر ابن فهيرة .
وممن سبق إلى الإسلام من نساء من غير من تقدم ذكرهن : أم أيمن بركة الحبشية ، مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاضنته ، أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية ، زوج العباس بن عبد المطلب ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - .
وقد عرف هؤلاء الأقدمون ومن أسلم معهم بلقب السابقين الأولين ، ويظهر بعد التتبع والاستقراء أن عدد من قيل فيه : أنه قديم الإسلام ، أو قيل فيه : إنه من السابقين الأولين ، يصل إلى مائة وثلاثين صحابياً تقريباً . ولكن لا يعرف بالضبط أنهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة. أو تأخر إسلام بعضهم إلى الجهر بها .

عبادة المؤمنين وتربيتهم :
أما الوحي فقد تتابع نزوله بعد أوائل المدثر . ويقال : إن أول ما نزل بعدها هي سورة الفاتحة ، وهي سورة تجمع بين الحمد والدعاء ، وتشتمل على جميع المقاصد المهمة من القرآن والإسلام ، كما أن أول ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من العبادات الصلاة : ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي ، نزل بذلك جبريل فعلمه الوضوء والصلاة .
فكانت الطهارة الكاملة هي سمة المؤمنين ، والوضوء شرط الصلاة ، والفاتحة أصل الصلاة ، والحمد والتسبيح من أوراد الصلاة ، وكانت الصلاة هي عبادة المؤمنين ، يقيمونها ، ويقومون بها في أماكن بعيدة عن الأنظار ، وربما كانوا يقصدون بها الأودية والشعاب .
ولا تعرف لهم عبادات وأوامر ونواه أخرى في أوائل أيام الإسلام ، وإنما كان الوحي يبين لهم جوانب شتى من التوحيد ، ويرغبهم في تزكية النفوس ، ويحثهم على مكارم الأخلاق ، ويصف لهم الجنة والنار ، ويعظهم مواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذي الأرواح .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويحدو بهم إلى منازل نقاء القلوب ، ونظافة الأخلاق ، وعفة النفوس ، وصدق المعاملات ، وبالجملة كان يخرجهم من الظلمات إلى النور . ويهديهم إلى صراط مستقيم ، ويربيهم على التمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله ، والثبات في أمر الله ، والاستقامة عليه .
وهكذا مرت ثلاثة أعوام ، والدعوة لم تزل مقصورة على الأفراد ، لم يجهر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجامع والنوادي ، إلا أنها صارت معروفة لدى قريش ، وقد تنكر لهم بعضهم أحياناً ، واعتدوا على بعض المؤمنين ، ولكنهم لم يبالوا بها بصفة عامة ، حيث لم يتعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لدينهم ولم يتكلم في آلهتهم .

صاحب فكرة 16-07-2016 09:09 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء التاسع من لقاءات السيرة العطرة
الجهــر بالدعـــوة
الدعوة في الأقربين :
وبعد أن قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنوات في سبيل الدعوة الفردية ، ووجد لها آذاناً صاغية ، ورجالاً صالحين من صميم قريش وغيرها ، وتمهدت لها السبل ، وتهيأ لظهورها الجو أنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم – ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ{214} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{215} فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) سورة الشعراء فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشيرته الأقربين ، وهم بنو هاشم ، ومعهم نفر من بني المطلب ، فقال بعد الحمد وشهادة التوحيد :
" إن الرائد لا يكذب أهله ، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم ، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم ، والله الذي لا إلا هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، ولتجزون بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءاً . وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً " .
فتكلم القوم كلاماً ليناً غير عمه أبي لهب . فإنه قال : خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب ، فإن سلمتموه إذن ذللتم . وإن منعتموه قتلتم . فقال أبو طالب : والله لنمنعنه ما بقينا ، وقال أيضاً : أمض لما أمرت به ، فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب .

على جبل الصفا :
وفي غضون ذلك نزل أيضاً قوله تعالى : (فَا صْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) سورة الحجر آية 94 فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم على الصفا فعلا أعلاها حجراً ، ثم هتف :" يا صباحاه " .
وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقع أمر عظيم .
ثم جعل ينادي بطون قريش ، ويدعوهم قبائل قبائل : يا بني فهر ! يا بني عدي ! يا بني فلان ! يا بني فلان ، يا بني عبد مناف ! يا بني عبد المطلب !
فلما سمعوا قالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا : محمد . فأسرع الناس إليه ، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولاً لينظر ماهو ؟
فلما اجتمعوا قال :" أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي " ؟
قالوا : نعم . ما جربنا عليك كذباً . ما جربنا عليك إلا صدقاً .
قال :" فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله – أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلا يدهمهم العدو – فخشي أن يسبقوه ، فجعل ينادي : يا صباحاه " .
ثم دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وبين لهم أن هذه الكلمة هي ملاك الدنيا ونجاة الآخرة . ثم حذرهم وأنذرهم عذاب الله إن بقوا على شركهم ، ولم يؤمنوا بما جاء به من عند الله ، وأنه مع كونه رسولاً لا ينقذهم من العذاب ولا يغنيهم من الله شيئاً .
وعم هذا الإنذار وخص فقال : " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، ولا أغني عنكم من الله شيئاً .
يا بني كعب بن لؤي ! أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا بني مرة بن كعب ! أنقذوا أنفسكم من النار .
يا معشر بني قصي ! أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا بني عبد شمس ! أنقذوا أنفسكم من النار .
يا بني عبد مناف ! أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا بني هاشم ! أنقذوا أنفسكم من النار .
يا بني عبد المطلب ! أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، ولا أغني عنكم من الله شيئاً ، سلوني من مالي ما شئتم ، ولا أملك لكم من الله شيئاً .
يا عباس بن عبد المطلب ! لا أغني عنك من الله شيئاً .
يا صفية بنت عبد المطلب : عمة رسول الله ! لا أغني عنك من الله شئياً .
يا فاطمة بنت محمد رسول الله ! سليني بما شئت ، أنقذي نفسك من النار ، لا أغني عنك من الله شيئاً .
غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها – أي سأصلها حسب حقها –
لما أتم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا ، ولا يذكر عنهم أنهم أبدوا أي معارضة أو تأييد لما سمعوه ، سوى ما ورد عن أبي لهب أنه واجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسوء ،
فقال تباً لك سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) سورة المسد .
أما عامة قريش فكأنهم قد أصابتهم الدهشة والاستغراب حين فوجئوا بهذا الإنذار، ولم يستطيعوا أن يختاروا أي موقف تجاه ذلك ، ولكنهم لما رجعوا إلى بيوتهم ، واستقرت أنفسهم ، وأفاقوا من دهشتهم ، واطمأنوا ، استكبروا في أنفسهم ، وتناولوا هذه الدعوة والإنذار بالاستخفاف والاستهزاء ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مر على ملأ منهم سخروا منه وقالوا : أهذا الذي بعث الله رسولاً ؟ أهذا ابن أبي كبشة . يكلم من السماء . أمثال ذلك .
وأبو كبشة اسم لأحد أجداده - صلى الله عليه وسلم - من جهة الأم ، كان قد خالف دين قريش ، واختار النصرانية ، فلما خالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدين نسبوه إليه ، وشبهوه به ، تعييراً واحتقاراً له وطعناً فيه .
واستمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته وبدأ يجهر في نواديهم ومجامعهم ، يتلو عليهم كتاب الله ، ويدعوهم إلى ما دعت إليه الرسل : )يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ) سورة هود آية 61 وبدأ يعبد الله أمام أعينهم ، فكان يصلي بفناء الكعبة نهاراًَ جهاراً وعلى رؤوس الأشهاد .
وقد نالت دعوته بعض القبول ، ودخل عدد من الناس في دين الله واحداً بعد واحد ، وحصل بين هؤلاء المسلمين وبين من لم يسلم من أهل بيتهم التباغض والتباعد .



المتواضع305 17-07-2016 02:24 AM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
بارك الله فيكم على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم

صاحب فكرة 17-07-2016 10:52 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة المتواضع305 (المشاركة 3437937)
بارك الله فيكم على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم

وفيكم بارك الله أخي الحبيب
جزاكم الله خيرا

صاحب فكرة 17-07-2016 11:06 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء العاشر من لقاءات السيرة العطرة
مشاورة قريش لكف الحجاج عن الدعوة :
واشمأزت قريش من كل ذلك ، وساءهم ما رأوه ، وما هي إلا أيام حتى اقترب موعد الحج ، وأهمهم أمر الحجاج ، فاجتمع نفر منهم إلى الوليد بن المغيرة – وكان ذا سن وشرف فيهم – فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضاً
قالوا : أنت فقل ، وأقم لنا رأياً نقول به .
قال : لا بل أنتم فقولوا أسمع .
قالوا : نقول : كاهن .
قال : ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم .
قالوا : فنقول مجنون .
قال : ماهو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته .
قالوا : فنقول : شاعر .
قال : ماهو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ، رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضة ومبسوطة . فما هو بالشعر .
قالوا : فنقول : ساحر .
قال : ماهو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا بعقده .
قالوا : فماذا نقول ؟
قال : والله إن لقوله حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة . وما أنتم بقائلين من هذا أنتم شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا : هو ساحر ، وقوله سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه . وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته .
فتفرقوا عنه بذلك ، وجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا للموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه وذكروا له أمره – صلى الله عليه وسلم - فعرف الناس أمره قبل أن يروه أو يسمعوا منه .
وجاءت أيام الحج فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مجامع الحجاج ورحالهم ومنازلهم ، ودعاهم إلى الإسلام ، وقال لهم :" يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " . وتبعه أبو لهب يكذبه ويؤذيه ، فصدرت العرب من ذلك الموسم وقد عرفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها .
سبل شتى لمواجهة الدعوة :
ولما انتهى الحج ، وعادت قريش إلى بيوتهم ، واطمأنوا كأنهم رأوا أن يعالجوا هذه
المشكلة التي نشأت لأجل قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله وحده ، ففكروا واستشاروا ، ثم اختاروا سبلاً شتى لمواجهة هذه الدعوة والقضاء عليها ، نذكرها فيما يلي بإيجاز .

الأول : مواصلة السخرية والاستهزاء وإلا كثار منها :
والقصد من ذلك تخذيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، وتوهين قواهم المعنوية ، فكانوا يتهمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه رجل مسحور ، شاعر مجنون ، كاهن يأتيه الشيطان ، ساحر كذاب ، مفتر متقول ، وغير ذلك من التهم والشتائم ، وكانوا إذا رأوه يجئ ويذهب ينظرون إليه نظر الغضب والنقمة ، كما قال الله – تعالى - : (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) القلم آية 51 وكانوا إذا رأوه يتهكمون به ، ويقولون : (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) سورة الأنبياء آية 36.
وإذا رأوا ضعفاء الصحابة قالوا : قد جاءكم ملوك الأرض ( أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) الأنعام آية 53 وكما قال الله تعالى -: ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ{ 29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ{30} وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ{31} وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ ) سورة المطففين.
وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء ، ومن الطعن والتضحيك حتى أثر ذلك في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله تعالى - : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ) ثم ثبته الله – تعالى – وبين له ما يذهب بهذا الضيق ، فقال : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ{98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) سورة الحجر وقد بين له قبل ذلك ما فيه التسلية ، حيث قال : (إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ{95} الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ )
( الحجر 95-99 )
وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالاً عليهم ، فقال ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ( الأنعام 10، الأنبياء 41 )

الثاني : الحيلولة بين الناس وبين الاستماع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - :
فقد قرروا أن يثيروا الشغب ، ويرفعوا الضوضاء ، ويطردوا الناس كلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعد ليقوم بالدعوة إلى الله فيما بينهم . وأن لا يتركوا له فرصة ينتهزها لبيان ما يدعوا إليه ، وقد تواصوا بذلك فيما بينهم . قال الله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) سورة فصلت آية 26 وقد ظلوا قائمين بذلك بكل شدة وصلابة ، حتى إن أول قرآن تمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلاوته في مجامعهم هو سورة النجم – وذلك في رمضان في السنة الخامسة من النبوة - .
وكانوا إذا سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن في صلاته – وأكثر ما كان يتلوه في صلاته بالليل – سبوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به ، حتى أنزل الله – تعالى -: ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) سورة الاسراء آية 110.
وذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة والشام ، فتعلم منهم قصصاً شعبية ، كانوا يحكونها عن ملوكهم وأمرائهم مثل : رستم وإسفندريار ، فلما رجع أخذ يعقد النوادي والمجالس ، يقص هذه القصص ويصرف بها الناس عن الاستماع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا سمع بمجلس جلس فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتذكير بالله ، خلفه في ذلك المجلس ، ويقص عليهم من تلك القصص ، ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثاً مني .
ثم تقدم خطوة أخرى ، فاشترى جارية مغنية ، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى تلك المغنية ، ويقول : أطعميه واسقيه وغنيه . هذا خير مما يدعوك إليه محمد . وفي ذلك أنزل الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) [ لقمان : 6 ]
وفي اللقاء القادم نكمل باقي سبل مواجهة الدعوة


صاحب فكرة 18-07-2016 10:41 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء الحادي عشر من لقاءات السيرة العطرة
3- الثالث : إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة :
فقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه ، فربما كانوا يقولون عن القرآن : إنه ( أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ) أي أحلام كاذبة يراها محمد – صلى الله عليه وسلم - بالليل ، فيتلوها بالنهار ، وأحياناً كانوا يقولون :" افتراه من عند نفسه " ، وأحياناً كانوا يقولون : (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) النحل [ آية 103 ] وربما قالوا : (إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) الفرقان [ آية 4 ] أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) الفرقان [ آية 5 ]
وأحياناً قالوا : أن له جناً أو شيطاناً يتنزل عليه بالقرآن مثل ما ينزل الجن والشياطين على الكهان . قال – تعالى- ردا عليهم : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ{221} تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) سورة الشعراء : أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب ، وما جربتم علي كذباً . ولا وجدتم في فسقاً ، فكيف تقولون إن القرآن من تنزيل الشيطان ؟
وأحياناً كانوا يقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قد أصابه نوع من الجنون ، فهو يتخيل المعاني ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة . كما يصوغ الشعراء ، فهو شاعر وكلامه شعر ، قال – تعالى – رداً عليهم : (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ{224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ{225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ) سورة الشعراء : فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ، ولا توجد واحدة منها في النبي - صلى الله عليه وسلم - فالذين اتبعوه هداة ، متقون ، صالحون في دينهم ، وخلقهم ، وأفعالهم ، وتصرفاتهم ، ومعاملاتهم ، ولا توجد عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم . وهو لا يهيم في الأودية كلها كما يهيم الشعراء ، بل يدعو إلى رب واحد ، ودين واحد ، وصراط واحد . وهو لا يقول إلا ما يفعل ، ولا يفعل إلا ما يقول ، فأين هو من الشعر والشعراء ؟ وأين الشعر والشعراء منه ؟

4-الرابع : النقاش والجدال :
وكانت ثلاث قضايا استغربها المشركون جداً ، وكانت هي الأساس في الخلاف الذي حصل بينهم وبين المسلمين في أمر الدين ، وهي : التوحيد ، والرسالة . والبعث بعد الموت . فكانوا يناقشون في هذه القضايا ، ويجادلون حولها .
البعث بعد الموت :
فأما البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب ، والاستبعاد العقلي فقط ، فكانوا يقولون : (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ{16} أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ )
[ الصافات 16-17]
وكانوا يقولون : (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) [ ق: 3] . وكانوا يقولون :
( هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ{7} أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ) [ سبأ : 7-8]
وقال قائلهم
أموت ثم بعث ثم حشر حديث خرافة يا أم عمرو
وقد رد الله عليهم بأنواع من الردود ، حاصلها أنهم يشاهدون في الدنيا أن الظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه ، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه ، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه ، والمسئ يموت قبل أن يعاقب على سيئاته ، فإن لم يكن بعد الموت يوم يبعث فيه الناس . فيؤخذ من الظالم للمظلوم ، ويجزي المحسن الصالح ، ويعاقب المسئ الفاجر ، لا ستوى الفريقان ، ولا يكون بينهما فرق ، بل يصير الظالم والمسئ أسعد من المظلوم والمحسن التقي . هذا غير معقول إطلاقاً ، وليس من العدل في شئ، ولا يتصور من الله – سبحانه – أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الظلم والفساد . قال تعالى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ{35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [ القلم : 35- 36 ] وقال : (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) [ الجاثية : 21] .
وأما الاستبعاد العقلي ، فقال رداً عليهم في ذلك : (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء )
[ النازعات : 27 ]

وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [ الأحقاف : 33 ] وقال ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ ) [ الواقعة : 62 ] وقال : (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ )
[ الأنبياء : 104 ]
. وذكرهم ماهو معتاد لديهم ، وهو أن الإعادة ( أهْوَنُ عَلَيْهِ ) [ الروم : 27 ] وقال : (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [ق:15]
هذا عن قضية البعث وان شاء الله نأخذ قضية الرسالة في اللقاء القادم


صاحب فكرة 19-07-2016 10:26 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء الثاني عشر من لقاءات السيرة العطرة
الرسالة :
وأما رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم - فكانت لهم حولها شبهات مع معرفتهم واعترافهم بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمانته وغاية صلاحه وتقواه ، وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أعظم وأجل من أن يعطى لبشر . فالبشر لا يكون رسولاً ، والرسول لا يكون بشراً ، حسب عقيدتهم ، فلما أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نبوته ورسالته ، ودعا إلى الإيمان به تحير المشركون، وتعجبوا وقالوا(مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ) وقال تعالى -: ( بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) ق - 2 . وقالوا ( مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) .
وقد أبطل الله عقيدتهم هذه ، وقال رداً عليهم ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ) [ الأنعام : 91 ] . وقص عليهم قصص الأنبياء والرسل ، وما جرى بينهم وبين قومهم من الحوار ، وأن قومهم قالوا إنكاراً لرسالتهم : (إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ) و( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)
[ إبراهيم : 10‘11]
. فالأنبياء والرسل كلهم كانوا بشراً . وأما أن يكون الرسول ملكاً فإن ذلك لا يفي بغرض الرسالة ومصلحتها ، إذ البشر لا يستطيع أن يتأسى بالملائكة ، ثم تبقى الشبهة كما هي ، قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) الأنعام : 9
وحيث إن المشركين كانوا يعترفون أن إبراهيم وإسماعيل وموسى عليهم السلام كانوا رسلاً وكانوا بشراً ، فإنهم لم يجدوا مجالاً للإصرار على شبهتهم هذه ولكنهم أبدوا شبهة أخرى قالوا : ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين ؟ ما كان الله ليترك العظماء الكبار من أشراف قريش وثقيف ، ويرسل هذا ، (لولَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) أي من مكة والطائف ، قال تعالى رداً عليهم : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ) الزخرف : 31 -32
يعني أن الوحي والقرآن والنبوة والرسالة رحمة من الله ، والله يعلم كيف يقسم رحمته ، وأين يضعها ، فمن يعطيها ، ومن يحرمها ، قال – تعالى – ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) . [ الأنعام : 124]
فانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى قالوا : إن من يكون رسولاً لملك من ملوك الدنيا يوفر له الملك أسباب الحشمة والجاه من الخدم ، والحشم ، والضيعة ، والمال ، والأبهة ، والجلال ، وغير ذلك ، وهو يمشي في موكب من الحرس والمرافقين أصحاب العز والشرف ، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش و يدعى إنه رسول الله ؟ ( لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً{7} أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً{8} ) [ الفرقان : 7:8 ]
ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أرسل إلى جميع أنواع البشر : صغارهم وكبارهم ، وضعافهم وأقويائهم ، وأذنابهم وأشرافهم ، وعبيدهم وأحرارهم ، فلو حصل له ما تقدم من الأبهة ، والجلال ، ومواكبة الخدم ، والحشم ، والكبار ، لم يكن يستفيد به ضعفاء الناس وصغارهم ، وهم جمهور البشر ، وإذن لفاتت مصلحة الرسالة ، ولم تعد لها فائدة تذكر . ولذلك أجيب المشركون على طلبهم هذا بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول ، يعني يكفي لدحض شبهتكم هذه أنه رسول ، الذي طلبتموه له من الحشمة والجاه والموكب والمال ، ينافي تبليغ الرسالة في عامة الناس ، بينما هم مقصودون بالرسالة .
فلما ردً على شبهتهم هذه تقدموا خطوة أخرى ، وأخذوا يطالبون بالآيات عناداً وتعجيزاً ، فدار بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - نقاش وحوار ، وسنأتي على شئ منه إن شاء الله .


صاحب فكرة 20-07-2016 08:50 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء الثالث عشر من لقاءات السيرة العطرة
التوحيد :
أما قضية التوحيد فكانت رأس القضايا وأصل الخلاف ، وكان المشركون يقرون بتوحيد الله – سبحانه وتعالى – في ذاته وصفاته وأفعاله ، فكانوا يعترفون بأن الله – تعالى – هو الخالق الذي خلق السموات والأرض وما بينهما ، وهو خالق كل شئ ، وهو المالك الذي بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما ، وملكوت كل شئ ، وهو الرازق الذي يرزق الناس والدواب والأنعام ، ويرزق كل حي ، وهو المدبر الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ويدبر أمر كل صغير وكبير حتى الذرة والنملة ، وهو رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، ورب كل شئ ، سخر الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والجن والإنس والملائكة ، كل له خاضعون ، يجير من يشاء على من يشاء ولا يجار عليه أبداً ، يحيي ويميت ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه .
وهم بعد هذا الإقرار الصريح لتوحيد الله – سبحانه وتعالى – في ذاته وصفاته وأفعاله كانوا يقولون : إن الله تعالى أعطى بعض عبادة المقربين – كالأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين – شيئاً من التصرف في بعض أمور الكون ، فهم يتصرفون فيه بإذنه مثل : هبة الأولاد ، ودفع الكربات ، وقضاء الحوائج ، وشفاء المرضى ، وأمثال ذلك . وأن الله إنما أعطاهم ذلك لقربهم من الله ، ولجاههم عند الله . فهم لأجل أن الله منحهم هذا التصرف وهذا الخيار يقضون بعض حاجات العباد عن طريق الغيب ، فيكشفون عنهم بعض الكربات ، ويدفعون بعض البليات ، ويقربون إلى الله من يرضون به ، ويشفعون له عنده .
والمشركون على أساس زعمهم هذا جعلوا هؤلاء الأنبياء والأولياء والصالحين وسيلة فيما بينهم وبين الله ، واخترعوا أعمالاً يتقربون بها إليهم ، ويبتغون بها رضاهم ، فكانوا يأتون بتلك الأعمال ثم يتضرعون إليهم ، ويدعونهم لقضاء حوائجهم ، ويستغيثون بهم في شدائدهم ، ويستعيذون بهم في مخاوفهم .
أما ألأعمال التي اخترعوها للتقرب إليهم فهي أنهم خصصوا لهؤلاء الأنبياء أو الأولياء والصالحين أماكن ، وبنوا لهم فيها البيوت ، ووضعوا فيها تماثيلهم التي نحتوها طبق صورهم الحقيقية أو الخيالية ، وربما وجدوا قبور بعض الأولياء والصالحين حسب زعمهم ، فبنوا عليها البيوت دون أن ينحتوا لهم التماثيل ، ثم كانوا يقصدون هذه التماثيل وتلك القبور ، فكانوا يمسحونها ويتبركون بها ، ويطوفون حولها ، ويقومون لها بالإجلال والتعظيم ، ويقدمون إليها النذور والقرابين ، ليتقربوا بها إليهم ، ويبتغوا بها من فضلهم ، وكانوا ينذرون لهم مما كان يرزقهم الله من الحرث والزرع والطعام والشراب والدواب والأنعام والذهب والفضة والمتعة والأموال .
فأما الحرث والزرع والطعام والشراب والذهب والفضة والأمتعة والأموال فكانوا يقدمونها إلى أماكن وقبور هؤلاء الصالحين ، أو إلى تماثيلهم ، بواسطة سدنة وحجاب كانوا يجاورون تلك القبور والبيوت ، ولم يكن يقدم إليها شئ إلا بواسطتهم في معظم الأحوال .
وأما الدواب والأنعام فكان لهم فيها طرق . فربما كانوا يسيبونها باسم هؤلاء الأولياء والصالحين ، من أصحاب القبور أو التماثيل ، تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ، فكانوا يقدسون هذه الدواب ، ولا يتعرضون لها بسوء أبداً ، ترتع ما شاءت ، وتتجول أين شاءت . وربما كانوا يذبحونها على أنصاب هؤلاء الأولياء – أي على قبورهم وأماكنهم المخصصة لهم – وربما كانوا يذبحونها في أي مكان آخر ، ولكن كانوا يذكرون أسماءهم بدل اسم الله – سبحانه وتعالى – .
وكان من جملة أعمالهم أنهم كانوا يحتفلون بهؤلاء الأولياء والصالحين مرة أو مرتين في السنة ، فكانوا يقصدون قبورهم وأماكنهم من كل جانب ، فيجتمعون عندها في أيام خاصة ، ويقيمون لها أعياداً ، يفعلون فيها كل ما تقدم من التبرك والمسح والطواف وتقديم النذور والقرابين وغير ذلك ، وكان كالموسم يحضره الداني والقاصي ، والشريف والوضيع ، حتى يقدم كل أحد نذره ، وينال بغيته .
كان المشركون يفعلون كل ذلك بهؤلاء الأولياء والصالحين تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ، ليجعلوهم وسطاء بينهم وبين الله ، وليتوسلوا بهم إلى الله ، معتقدين إنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، ويشفعون لهم عند الله ، ثم كانوا يدعونهم لقضاء حوائجهم ودفع كرباتهم ، معتقدين أنهم يسمعون لما قالوا ، ويستجيبون لما دعوا وطلب منهم ، فيقضون حوائجهم ، ويكشفون كرباتهم ، إما بأنفسهم ، وإما بشفاعتهم لذلك عند الله .
فكان هذا هو شركهم بالله ، وعبادتهم لغير الله ، واتخاذهم آلهة من دون الله ، وجعلهم شركاء لله ، وكان هؤلاء الأولياء والصالحون وأمثالهم هم آلهة المشركين .


صاحب فكرة 23-07-2016 09:58 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء الرابع عشر من لقاءات السيرة العطرة
فلما قام النبي – صلى الله عليه وسلم -بالدعوة إلى التوحيد الله ، وخلع كل ما اتخذوه إلهاً من دون الله ، شق ذلك على المشركين ، وأعظموه ، وأنكروه ، وقالوا : إنها مؤامرة أريد بها غير ما يقال ، وقالوا :
( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ{5} وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ{6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ) سورة ص (7-5) .
ثم لما تقدمت الدعوة وقرر المشركون الدفاع عن شركهم ، والدخول في النقاش والجدال ومناظرة المسلمين ليكفوا بذلك الدعوة إلى الله ، ويبطلوا أثرها في المسلمين ، أقيمت عليهم الحجة من عدة جوانب ، فقيل لهم : من أين علمتم أن الله تعالى أعطى عباده المقربين التصرف في الكون ، وأنهم يقدرون على ما تزعمون من قضاء الحوائج وكشف الكربات ؟ هل اطلعتم على الغيب ؟
أو وجدتم ذلك في كتاب ورثتموه من الأنبياء أو أهل العلم ؟
قال – تعالى – (أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) [ الطور: 41 القلم : 47 ]
وقال : (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) [ الأحقاف 4]
وقال ( قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ) [ الأنعام :148]

وكان من الطبيعي أن يعترف المشركون بأنهم لم يطلعوا على الغيب ، ولا وجدوا ذلك في كتاب من كتب الأنبياء ، ولا أخذوه من أهل العلم ، فقالوا : (بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا )
[ لقمان : 21] و( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) [ الزخرف :22 ]

وبهذا الجواب تبين عجزهم وجهلهم معا ، فقيل لهم : إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ، فاسمعوا منه – سبحانه وتعالى – ما يقوله ويخبر به عن حقيقة شركائكم هؤلاء يقول – تعالى - : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) [ الأعراف : 194] أي إنهم لا يقدرون على شئ مما يختص بالله – سبحانه وتعالى – كما أنكم لا تقدرون عليه ، فأنتم وهم سواء في العجز وعدم القدرة ، ولذلك تحداهم بقوله : )فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) [ الأعراف : 194 ]
وقال – تعالى - : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ) أي بقدر ما يكون من القشرة الرقيقة فوق النواة ( إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) [ فاطر : 13،14] وقال- تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ{20} أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ )
[ النحل 20،21] وقال – تعالى – ( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ{191} وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) [ الأعراف 191،192] وقال : )وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً ) [ الفرقان :3]

ثم رتب على عجز هؤلاء الآلهة ، وعدم قدرتهم على ما كانوا يزعمون ، وأن دعاءهم والرجاء منهم لغو وباطل لا فائدة فيه إطلاقاً ، وذكر لذلك بعض الأمثلة الرائعة ، وذلك مثلاً قال – تعالى - : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ) [ الرعد : 14]
ثم دعى المشركين إلى قليل من التفكير ، وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن الله – تعالى – هو خالق كل شئ ، وأن آلهتهم لم يخلقوا شيئاً ، ولا يستطيعون أن يخلقوا شيئاً ، بل هم أنفسهم مخلوقون لله ، فقيل لهم : فكيف سويتم بين الله الخالق القادر وبين هؤلاء المخلوقين العجزة ؟ كيف سويتم بينهما في العبادة والدعاء ؟ فإنكم تعبدون الله وتعبدون هؤلاء ، وتدعون الله وتدعون هؤلاء ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) . فلما وجه إليهم هذا السؤال بهتوا ، وذهبت عنهم حجتهم ، فسكتوا وندموا ، ثم تشبثوا بأمر باطل ، قالوا : إن آباءنا كانوا من أعقل البشر ، معروفين بذلك فيما بين الناس ، قد اعترف بفضل عقولهم الداني والقاصي ، وهم كلهم كانوا على هذا الدين ، فكيف يمكن أن يكون هذا الدين ضلالاً وباطلاً ؟ ولا سيما وآباء النبي – صلى الله عليه وسلم - وآباء المسلمين أيضاً كانوا على هذا الدين .
فرد عليهم بأنهم لم يكونوا مهتدين ، ولم يعرفوا سبيل الحق ، ولا سلكوه ويستلزم هذا أنهم كانوا ضالين ، لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ، وقد قيل لهم بذلك أحياناً بالإشارة والكناية ، وأحيانا بالصراحة الكاملة ، مثل قوله – تعالى – ( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ{69} فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ )
[ الصافات : 69، 70 ]
هذه من جهة ، ومن جهة أخرى أخذ المشركون يخوفون النبي – صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من آلهتهم ، يقولون : إنكم أسأتم الأدب إلى آلهتنا ببيان عجزهم ، فهم سوف يغضبون عليكم ، فتهلككم أو تخبطكم لأجل ذلك ، وهذا كما كان الأولون يقولون لرسلهم ( إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ ) .
ورد على ذلك بتذكير المشركين وإلزامهم بما كانوا يشاهدونه ليلاً ونهاراً ، وهي أن هذه الآلهة لا تستطيع أن تتحرك من أماكنها ، وتتقدم أو تتأخر شيئاً ، أو تدفع عن نفسها شراً ، فكيف تستطيع أن تضر المسلمين وتهلكهم ؟ ( أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ ) [ الأعراف : 195 ] .
وضرب لهم بمثل هذه المناسبة بعض الأمثال الصريحة ، مثل قوله – تعالى – ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) [ الحج :73] ومثل قوله – تعالى – ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) [ العنكبوت : 41] وقد بين بعض المسلمين عجزهم هذا بقوله :
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
فلما وصلت النوبة إلى مثل هذه المصارحة هاج المشركون وما جوا ، وسبوا المسلمين حتى سبوا ربهم الله – سبحانه وتعالى – فأما المسلمون فقد نهاهم الله – سبحانه وتعالى – عن معاودة ما يسبب ذلك ، وقال : (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .
وأما المشركون فقد قرروا إحباط الدعوة ، والصد عن سبيل الله بالضغط والقوة والعنف ، فقام كل كبير ورئيس بتعذيب من آمن من قبيلته ، وذهب جمع منهم إلى أبي طالب ليكف هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عن الدعوة إلى الله .


صاحب فكرة 25-07-2016 09:20 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء الخامس عشر من لقاءات السيرة العطرة
تعذيب المسلمين :
فأما تعذيبهم المسلمين فقد أتوا فيه بأنواع تقشعر لها الجلود ، وتتفطر منها القلوب .
• كان بلال بن رباح – رضي الله عنه- مملوكاً لأمية بن خلف الجمحي ، فكان أمية يجعل في عنقه حبلاً ، ويدفعه إلى الصبيان ، يلعبون به ، وهو يقول : أحد أحد . وكان يخرج به في وقت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في الرمضاء ، وهي الرمل أو الحجر الشديد الحرارة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا يزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ، فيقول أحد ، أحد .
ومر به أبو بكر - رضي الله عنه - يوماً وهو يعذب فاشتراه وأعتقه لله .
• وكان عامر بن فهيرة يعذب حتى يفقد وعيه ، ولا يدري ما يقول .
• وعذب أبو فكيهة – واسمه أفلح ، قيل : كان من الأزر ، وكان مولى لبني عبد الدار ، فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد ، وفي رجليه قيد من حديد ، فيجردونه من الثياب ، ويبطحونه في الرمضاء ، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك ، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل ، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ، وكانوا مرة قد ربطوا رجليه بحبل ، ثم جروه ، وألقوه في الرمضاء ، وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات ، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله .
• وكان خباب بن الأرت ممن سبي في الجاهلية ، فاشترته أم أنمار بنت سباع الخزاعية ، وكان حداداً ، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار ، كانت تأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ليكفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يزيده ذلك إلا إيماناً وتسليماً ، وكان المشركون أيضاً يعذبونه ، فيلوون عنقه ، ويجذبون شعره ، وقد ألقوه مراراً على فحم النار . ثم وضعوا على صدره حجراً ثقيلاً حتى لا يقوم .
• وكانت زنيرة أمة رومية ، أسلمت ، فعذبت في الله ، وأصيبت في بصرها حتى عميت ، فقيل لها : أصابتك اللات والعزى ، فقالت : لا والله ما أصابتني ، وهذا من الله ، وإن شاء كشفه ، فأصبحت من الغد ، وقد رد الله بصرها ، فقالت قريش : هذا بعض سحر محمد .
• وأسلمت أم عبيس : جارية لبني زهرة ، فكان يعذبها مولاها الأسود بن عبد يغوث ، وكان من أشد أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن المستهزئين به .
• وأسلمت جارية عمرو بن مؤمل من بني عدي ، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ، وهو يومئذ على الشرك ، فكان يضربها حتى يفتر ، ثم يدعها ، ويقول : والله ما أدعك إلا سآمة ، فتقول : كذلك يفعل بك ربك .
• وتذكر فيمن أسلمن وعذبن من الجواري : النهدية ، وابنتها وكانتا لا مرأة من بني عبد الدار .
واشترى أبوبكر - رضي الله عنه - هؤلاء الجواري ، وأعتقهن كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة ، وأبا فكيهة . وقد عاتبه أبوه أبو قحافة ، وقال : أراك تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أعتقت رجالاً جلداً لمنعوك . فقال ( فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى{14} لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى{15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) وهو أمية بن خلف ، ومن كان على شاكلته (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى{17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى{18} وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى{19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى{20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى{21} (سورة الليل) وهو أبوبكر الصديق – رضي الله تعالى عنه وعمن أعتقهم ، وعن الصحابة أجمعين - .
• وعذب عمار بن ياسر وأمه وأبوه – رضي الله عنهم – وكانوا حلفاء بني مخزوم ، فكان بنو مخزوم – وعلى رأسهم أبو جهل – يخرجونهم إلى الأبطح ، إذا حميت الرمضاء ، فيعذبونهم بحرها ، ويمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول :" صبراً آل ياسر موعدكم الجنة ، اللهم اغفر لآل ياسر "
أما ياسر والد عمار – وهو ياسر بن عامر بن مالك العنسي المذحجي – فقد مات تحت العذاب . وأما أم عمار – وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة المخزومي ، وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة ،- فطعنها أبو جهل في قبلها بحربة ، فماتت ، وهي أول شهيدة في الإسلام .
وأما عمار فثقل عليه العذاب ، فإن المشركين تارة كانوا يلبسونه درعاً من حديد في يوم صائف ، وتارة كانوا يضعون على صدره صخراً أحمر ثقيلاً ، وتارة كانوا يغطونه في الماء ، حتى قال بلسانه بعض ما يوافقهم ، وقلبه ملئ بالإيمان ، فأنزل الله ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( سورة النحل آية 106 .
• وعذب في الله مصعب بن عمير ، كان من أنعم الناس عيشاً ، فلما دخل في الإسلام منعته أمه الطعام والشراب ، وأخرجته من البيت ، فتخشف جلده تخشف الحية .
• وعذب صهيب بن سنان الرومي ، حتى فقد وعيه ، ولا يدري ما يقول .
• وعذب عثمان بن عفان ، كان عمه يلفه في حصير من ورق النخيل ، ثم يدخنه من تحته .
• وأوذي أبو بكر الصديق ، وطلحة بن عبيد الله ، أخذهما نوفل بن خويلد العدوي وقيل : عثمان بن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله ، فشدهما في حبل واحد ، ليمنعهما عن الصلاة وعن الدين ، فلم يجيباه ، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان ، وسميا بالقرينين لكونهما قد شدا في حبل واحد .
وكان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم وله شرف ومنعة ، أنبه ، وأخزاه ، وأوعده بإلحاق الخسارة الفادحة في المال والجاه ، وإذا كان الرجل ضعيفاً ضربه وأغرى به . والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال .
كانت هذه الاعتداءات ضد الضعفاء المسلمين وعامتهم . أما من أسلم من الكبار والأشراف فإنهم كانوا يحسبون له حساباً ، ولم يكن يجترئ عليهم إلا أمثالهم من رؤساء القبائل وأشرافها ، وذلك مع قدر كبير من الحيطة والحذر .


صاحب فكرة 27-07-2016 09:02 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء السادس عشر من لقاءات السيرة العطرة
موقف المشركين من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان له من الشهامة والشرف والوقار ما وقاه الله به كثيراً من اعتداءات الناس . وقد كان يحوطه ويمنعه أبو طالب ، وكان سيداً مطاعاً معظماً في قريش ، ولا يستهان بذمته ولا تخفر ، كان من ذروة بني عبد مناف ، ولم تعرف لها قريش بل العرب إلا الإجلال والتكريم ، فاضطر المشركون بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اتخاذ خطوات سليمة ، واختاروا سبيل المفاوضات مع عمه أبي طالب ، ولكن مع نوع من أسلوب القسوة والتحدي .

بين قريش وأبي طالب :
فقد مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، وقالوا له :إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه .
فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً ، وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على ما هو عليه ، يظهر دين الله ويدعو إليه .
إنذار قريش وتحديهم لأبي طالب :
ولم تصبر قريش طويلاً حين رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ماضياً في عمله ودعوته إلى الله ، فقد أكثروا ذكره وتذامروا فيه ، ثم مشوا إلى أبي طالب ، وقالوا : يا أبا طالب إن لك سنا ، وشرفاً ، ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا .
وعظم على أبي طالب هذا التحدي والإنذار ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر له ما قالوه ، وقال له : أبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعفه قال : يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته . ثم استعبر وبكى . وعادت إلى أبي طالب الرقة والثقة ، فقال : اذهب يا ابن أخي ! فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشئ أبداً .
اقتراح غريب من قريش ، ورد طريف من أبي طالب :
ورأت قريش أن إنذارهم لم يجد نفعاً ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ماض في عمله ، وأبو طالب قائم بنصرته . وهذا يعني أنه مستعد لفراقهم وعداوتهم ومنازلتهم في نصرة ابن أخيه محمد - صلى الله عليه وسلم فلبثوا ملياً يفكرون ويتشاورون ، حتى وصلوا إلى اقتراح غريب ، فقد جاءوا إلى أبي طالب ، ومعهم عمارة بن الوليد سيد شبابهم وأنهد فتى في قريش وأجمله ، فقالوا : يا أبا طالب خذ هذا الفتى ، فلك عقله ونصره ، واتخذه ولداً ، فهو لك ، وأسلم إلينا أبن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل .
قال أبو طالب : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله مالا يكون أبداً .



صاحب فكرة 30-07-2016 10:02 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء السابع عشر من لقاءات السيرة العطرة

اعتداءات على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :
ولما فشلت قريش ويئسوا ، ورأوا أن الإنذار والتحدي والمساومة لم تجد نفعاً ، بدأوا بالاعتداءات على ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزادوا في تعذيب المسلمين والتنكيل بهم .
وحيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان معززاً محتشماً محترماً ، فقد تولى إيذاءه كبراء قريش ورؤساؤهم ، ولم يجترئ على ذلك أذنابهم وعامتهم .
وكان النفر الذين يؤذونه في بيته أبا لهب ، والحكم بن أبي العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وابن الأصداء الهذلي – وكانوا جيرانه - صلى الله عليه وسلم - فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان يطرحها في برمته إذا نصبت ، وكانوا إذا طرحوا عليه ذلك يخرج به على العود فيقف به على بابه ويقول : يا بني عبد مناف ! أي جوار هذا ؟! ثم يلقيه في الطريق .
وكان أمية بن خلف إذا رآه همزه ولمزه . والهمز : الطعن والشتم علانية ، أو كسر العينين والغمز بهما . واللمز : العيب والإغراء .
وكان أخوه أبي بن خلف يتوعد النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول : يا محمد إن عندي العود ، فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه . حتى قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بل أنا أقتلك إن شاء الله – وقد قتله يوم أحد – وجاء أبي بن خلف هذا يوماً بعظم بال رميم ، ونفخه في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .
وجلس عقبة بن أبي معيط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وسمع منه ، فبلغ أبيا – وكان صديقه – فعاتبه ، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل .
أما أبو لهب فقد عاداه وآذاه من أول يوم ظهرت فيه الدعوة إلى الله . وكانت في عقد ابنيه عتبة وعتبية ابنتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رقية وأم كلثوم ، فقال لهما : رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا بنتي محمد ، وقالت زوجته أيضاً : طلقاهما فإنهما قد صبأتا ، فطلقاهما .
وكانت زوجته هذه – وهي أم جميل أروى بنت حرب – أيضاً عدوة لدودة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته ، فكانت تأتي بالأغصان وفيها الشوك ، فتطرحها في سبيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالليل ، حتى يعقر هو وأصحابه .
وسمعت بنزول ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) سورة المسد - فجاءت وفي يدها فهر – أي ملئ الكف من الحجارة – وهي تبحث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع أبي بكر عند الكعبة فأخذ الله ببصرها ، فلم تكن ترى إلا أبا بكر ، فقالت : أين صاحبك ؟ قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، أما الله أني لشاعرة ثم قالت :
مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله أما تراها رأتك ، فقال : ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها .
وكان مما تؤذي به قريش أنهم كانوا يسمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مذمما بدل محمد ، يشتمون بذلك ويسبون ، ولكن صرف الله ذلك عنه ، حيث إنهم كانوا يشتمون مذمما وهو محمد
وكان الأخنس بن شريق الثقفي أيضاً ينال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأما أبو جهل فكأنه كان قد تحمل عبء الصد عن سبيل الله . وقد كان يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله ، وينهاه عن الصلاة ، ويفخر ويختال بما فعل ، حتى شدد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوعده في يوم رآه يصلي ، فانتهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه بخناقه ، وهزه قال ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ) سورة القيامة فقال : أتوعدني يا محمد ! والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً . وإني لأعز من مشى بين جبليها .
وقال لرفقته يوماً : يعفر محمد وجه بين أيديكم ، قالوا : نعم . فقال : واللات والعزى لئن رأيته لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه . فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي زعم ليطأ رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقى بيديه ، فقالوا : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو دنا مني لا ختطفته الملائكة عضوا عضوا .
وحاز مثل هذه الشقاوة عقبة بن أبي معيط ، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يصلي يوماً عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يجئ بسلا جزور بني فلان . فيضعه على ظهر محمد إذا سجد . فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ، فجاء به وانتظر ، فلما سجد وضعه بين كتفيه ، فجعلوا يضحكون ، ويحيل ( أي يميل ) بعضهم على بعض ، وهو ساجد لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة وطرحته عن ظهره ، فرفع رأسه ، ثم قال :" اللهم عليك بقريش ". فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم ، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة ، ثم سماهم رجلاً رجلاً :" اللهم عليك بفلان وفلان ". وقد قتلوا كلهم يوم بدر .
وكان عظماء المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، وأبو زمعة الأسود بن عبد المطلب الأسدي ، والحارث بن قيس الخزاعي ، والعاص بن وائل السهمي ، وقد أخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم- أنه سيكفي شرهم فقال ( إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) سورة الحجر ثم أنزل على كل منهم ما فيه عبرة وعظة .
فأما الوليد فكان قد أصابه قبل سنين خدش من سهم ، ولم يكن شيئاً ، فأشار جبريل إلى أثر ذلك الخدش فانتفض ، فلم يزل يؤلمه ويؤذيه حتى مات بعد سنين .
وأما الأسود بن عبد يغوث فأشار جبريل إلى رأسه ، فخرج فيه قروح ، فمات منها ، وقيل : أصابه سموم ، قيل : أشار جبريل إلى بطنه ، فاستسقى بطنه ، وانتفخ ، حتى مات .
وأما الأسود بن عبد المطلب فلما تضايق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أذاه دعا عليه ، وقال :" اللهم أعم بصره ، وأثكله ولده " فرماه جبريل بشوك في وجهه حتى ذهب بصره . رومي ولده زمعة حتى مات .
وأما العاص بن وائل ، فجلس على شبرقة ، فدخلت شوكة لها من أخمص قدمه ، وجرى سمها إلى رأسه حتى مات .
هذه صورة مصغرة لما كان يعانيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والمسلمون من قريش بعد إعلان الدعوة والجهر بها . وقد اتخذ رسول الله خطوتين إزاء هذا الموقف المتأزم .


صاحب فكرة 01-08-2016 08:42 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء الثامن عشر من لقاءات السيرة العطرة
دار الأرقم :
الأولى : أنه جعل دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي مركز الدعوة والعبادة ومقر التربية ، لأنها كانت في أصل الصفا ، بعيدة عن أعين الطغاة ، فكان يجتمع فيها مع صحابته سراً ، فيتلو عليهم آيات الله ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة : وبهذا التدبير وقى أصحابه كثيراً من الإحداث التي كان يخشى وقوعها لو اجتمع بهم جهراً وعلانية ، أما هو – صلى الله عليه وسلم - فكان يدعو الله ويدعو إليه جهراً بين ظهراني المشركين ، لا يصرفه عن ذلك ظلم ، ولا عدوان ، ولا سخرية ، ولا استهزاء ، وكان ذلك من حكمة الله حتى تبلغ ، ولئلا يقول قائل يوم القيامة : ما جاءنا من بشير ولا نذير .

الهجرة إلى الحبشة :
الخطوة الثانية : أنه - صلى الله عليه وسلم - أشار على المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ، بعد أن تأكد أن النجاشي ملك عادل لا يظلم عنده أحد .
وفي رجب سنة 5 من النبوة هاجر أول دفعة من المسلمين ، وكانوا اثني عشر رجلاً وأربع نسوة ، رئيسهم عثمان بن عفان الأموي – رضي الله عنه - ومعه زوجه رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام .
خرج هؤلاء الصحابة سراً في ظلام الليل قاصدين ميناء شعيبة جنوب جدة ، وكان من قدر الله أنهم وجدوا سفينتين تجاريتين فركبوهما حتى وصلوا إلى الحبشة .
أما قريش فلما علموا بخروجهم هاجوا وغضبوا ، وأسرعوا في آثارهم حتى يلقوا عليهم القبض ، ويردوهم إلى مكة ، ليواصلوا التنكيل والتعذيب ، ويصرفوهم عن دين الله ، ولكن المسلمين فاتوهم إلى البحر ، فرجعوا خائبين بعدما وصلوا إلى الساحل .

موافقة المشركين للمسلمين وسجودهم في سورة النجم :
وفي رمضان سنة خمس من النبوة أي بعد الهجرة المسلمين بحوالي شهرين خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الحرام ، وحول الكعبة جمع كبير من قريش ، فيهم ساداتهم وكبراؤهم ، وكانت قد نزلت عليه سورة النجم ، فقام فيهم ، وأخذ يتلوها فجاءة ، وكان أروع كلام سمعوه قط ، فاندهشوا لروعة هذا الكلام ، وأخذ منهم كل مأخذ ، فبقوا يستمعون إليه مبهوتين ساكتين ، حتى إذا تلا في خواتم السورة زواجر وقوارع طارت لها القلوب ، وتلا في الأخير ( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) . وخر ساجداً سجد الجميع ، ولم يملكوا أنفسهم .
روى البخاري عن ابن مسعود – رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم ، فسجد بها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفا من حصى أو تراب ، فرفعه إلى وجهه ، قال : يكفيني هذا . فلقد رأيته بعد قتل كافراً – وهو أمية بن خلف قتل يوم بدر - .
عودة المهاجرين إلى مكة :
وصل هذا الخبر إلى الحبشة ، ولكن في صورة تختلف عن الواقع ، فقد بلغهم أن قريشاً أسلموا ، فرجعوا فرحين مستبشرين إلى مكة ، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار عرفوا جلية الأمر ، فمنهم من رجع إلى الحبشة ، ومنهم من دخل مكة سراً أو في جوار أحد من قريش .

الهجرة الثانية إلى الحبشة :

واشتد البلاء والعذاب على المسلمين من قريش ندماً على ما فرط منهم من السجود مع المسلمين ، وانتقاماً لما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره للمهاجرين ، ونظراً إلى هذه الظروف القاسية أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى . فهاجر اثنان أو ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشرة امرأة ، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من الأولى ، لأن قريشاً كانوا متيقظين يتابعون حركات المسلمين ، إلا أن المسلمين كانوا أكثر منهم تيقظاً ، وأحسن منهم حكمة ، وأحكم منهم خطوة ، فقد فاتوهم إلى الحبشة رغم كل الجهود .



صاحب فكرة 03-08-2016 08:49 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء التاسع عشر من لقاءات السيرة العطرة
مكيدة قريش بمهاجري الحبشة :
شق على المشركون أن أفلت منهم المسلمون ، ووصلوا إلى مأمن يأمنون فيه على أنفسهم وإيمانهم ، فأرسلوا رجلين من دهاتهم ليسترداهم إلى مكة ، وهما : عمرو بن العاص ، وعبد الله بن ربيعة ، وكانا إذ ذاك على الشرك .
ونزل الرجلان بالحبشة تحت خطة مدبرة ، فاتصلا أولاً بالبطارقة ، وساقا إليهم الهدايا ، وذكرا لهم الهدف ، ولقناهم الحجة ، حتى وافقوهما ، ثم حضرا إلى النجاشي ، فقدما إليه الهدايا ، ثم كلماه ، فقالا :
أيها الملك :إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دينهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عيناً ، وأعلم بما عابوا عليهم ، وعاتبوهم فيه
وأيدهما البطارقة فيما قالاه حسب الخطة .
ولكن النجاشي احتاط في الأمر . ورأى أن يسمع القضية من الطرفين حتى يتضح له الحق . فدعا المسلمين ، وسألهم : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل ؟
فتكلم جعفر بن أبي طالب عن المسلمين ، وقال : أيها الملك : كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسئ الجوار ، ويأكل منا القوي الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان : وأمرنا بصدق لحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئاً ، وحرمنا ما حرم الله علينا ، وأحللنا ما أحل لنا . فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا ، وظلمونا ، وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك ، أيها الملك !
فلما سمع النجاشي هذا ، طلب من جعفر قراءة شئ من القرآن ، فقرأ عليه صدراً من كهعيص – سورة مريم – فبكى النجاشي حتى اخضلت – أي ابتلت – لحيته ، وبكى الأساقفة حتى أخضلوا – أي بلوا – مصاحفهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة .
ثم خاطب مندوبي قريش وقال : انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ، ولا يُكادون ، فخرجا .
وفي اليوم الثاني احتال عمرو بن العاص حيلة أخرى ، فقال للنجاشي : إنهم – أي المسلمين – يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً .
فدعاهم النجاشي وسألهم عن ذلك ، فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به النبي – صلى الله عليه وسلم - : هو عبدالله ورسوله ، وروحه ، وكلمته ، ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فأخذ النجاشي عوداً من الأرض ، ثم قال : والله ماعدا – أي ما جاوز – عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود . اذهبوا فأنتم شيوم – أي آمنون – بأرضي ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم . ما أحب أن لي دبراً – أي جبلاً – من ذهب ، وأني آذيت رجلاً منكم .
ثم أمر برد الهدايا على مندوبي قريش فخرجا مقبوحين ، وأقام المسلمون بخير دار مع خير جار .



صاحب فكرة 06-08-2016 09:05 PM

رد: قراءة يومية في السيرة النبوية
 
اللقاء العشرون من لقاءات السيرة العطرة
حيرة المشركين :
لما منى المشركون بالخيبة والفشل في استرداد المسلمين من الحبشة استشاطوا غضباً ، وكادوا يتميزون غيظاً ، وينقضون على بقية المسلمين بطشاً ، ولا سيما وقد كانوا يرون أن النبي – صلى الله عليه وسلم- ماض في دعوته ، ولكنهم رأوا أن أبا طالب قائم بنصرته رغم التهديد والوعيد الشديد ، فاحتاروا في أمرهم ، ولم يدروا ماذا يفعلون ؟ فربما غلبت عليهم الضراوة ، فعادوا إلى التعذيب والتنكيل بالنبي - صلى الله عليه وسلم- وبمن بقي معه من المسلمين ، وربما فتحوا باب النقاش والجدال ، وربما عرضوا الرغائب والمغريات ، وربما حاولوا المساومة واللقاء في منتصف الطريق ، وربما فكروا في قتل النبي - صلى الله عليه وسلم- والقضاء على دعوة الإسلام . إلا أن شيئاً من ذلك لم يجد لهم نفعاً ، ولم يوصلهم إلى المراد ، بل كانت نتيجة جهودهم الخيبة والخسران ، وفيما يلي نقدم صورة مصغرة لكل من ذلك .

التعذيب ومحاولة القتل :

كان من الطبيعي أن يعود المشركون إلى ضراوتهم بعد الفشل ، وفعلاً عادوا إلى الشدة والبطش بالبقية الباقية من المسلمين ، بل مدوا أيديهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -
فمن ذلك أن عتيبة بن أبي لهب أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : هو يكفر بالذي ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى{8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) ثم تسلط عليه بالأذى ، وشق قميصه ، وتفل في وجهه - صلى الله عليه وسلم- إلا أن البزاق رجع على عتيبة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : اللهم أرسل عليه كلباً من كلابك ، فخرج عتيبة في ركب إلى الشام ، فلما نزلوا في الطريق طاف بهم الأسد ، فقال : هو والله آكلي ، كم دعى محمد علي ، قتلني وهو بمكة وأنا بالشام ، فلما ناموا جعلوه في وسطهم ، ولكن جاء الأسد وأخذه برأسه من بين الإبل والناس ، وقتله .
ومن ذلك أن عقبة بن أبي معيط وطئ برجله على رقبة النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان .
ويؤخذ في سياق الحوادث أن المشركين بعد فشلهم في شتى محاولاتهم لكف الدعوة أخذوا يفكرون بجد في قتل النبي -صلى الله عليه وسلم - ولو أدى ذلك إلى سفك الدماء .
ومما يدل على ذلك أن أبا جهل قال يوما لقريش : أن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ، قالوا : والله لا نسلمك لشي أبداً ، فامض لما تريد .
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراً كما وصف ، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقام يصلي ، وغدت قريش في أنديتهم ينتظرون ما يفعله أبو جهل ، وأقبل أبو جهل حتى دنا ، ثم رجع منهزماً ، منتقعاً لونه ، مرعوباً ، قد يبست يداه على حجره ، حتى قذفه من يده . فقالت له قريش : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : قمت لأفعل ما قلت البارحة ، فعرض لي فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته وقصرته وأنيابه لفحل قط ، فهم بي أن يأكلني .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :" ذاك جبريل لو دنا لأخذه " .
ثم حدث ما هو أشد من ذلك وأنكى ، وذلك أن قريشاً اجتمعوا يوماً في الحطيم ، وتكلموا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فبينا هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وبدأ يطوف بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ، فعرف ذلك في وجهه ، ثم مر بهم الثانية ، فغمزوه بمثلها ، فعرف ذلك في وجهه ، ثم مر بهم الثالثة ، فغمزوه بمثلها ، فوقف ، ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش : أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته ، كأن على رؤوسهم طائراً وقع ، حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد .
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره ، إذ طلع عليهم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، فأخذوا بمجامع ردائه ، وقالوا : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباءنا ؟ قال : أنا ذاك ، فانقضوا عليه ، هذا يحثه ، وهذا يبلبله ، وأقبل عقبة بن أبي معيط فلوي ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقاً شديداً ، وأتى الصريخ إلى أبي بكر : أدرك صاحبك ، فجاء وأخذ بمنكبي عقبة ودفعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وأخذ يضرب هذا ، ويجاهد هذا ، وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، فانصرفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر ، وضربوه ضرباً لا يعرف وجهه من أنفه ، وكانت له أربع غدائر فما يمسون منها شيئاً إلا رجع ، فحملته بنو تيم في ثوب وأدخلوه منزله ، ولا يشكون في موته ، فتكلم آخر النهار ، فسأل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فلاموه ، وخرجوا من عنده ، وعرض عليه الطعام والشراب فأبى أن يأكل أو يشرب حتى يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلما هدأ الليل وسكن الناس أوصلوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو في دار الأرقم ، فلما وجده بخير ساغ له الطعام والشراب .
وقد خرج أبوبكر – رضي الله عنه - يريد الهجرة إلى الحبشة بعدما اشتد عليه الأذى تضايقت عليه سبل الحياة ، ولما بلغ برك الغماد لقيه مالك بن الدغنة سيد القارة والأحابيش (القارة : اسم قبيلة عظيمة ، والأحابيش مجموعة قبائل تحالفوا عند جبل حبشي فسموا بذلك ( فسأله عن قصده ، فأخبره ، فقال : مثلك يا أبا بكر لا يخرج ، إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار ، فارجع واعبد ربك ببلدك ، ثم رجعا إلى مكة ، وأعلن ابن الدغنة في قريش عن جواره لأبي بكر ، فلم ينكروا عليه ، ولكن قالوا له : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ولا يستعلن ، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا وضعفتنا ، فلبث أبو بكر بذلك فترة ، ثم بنى مسجداً بفناء داره ، واستعلن بصلاته وقراءته ، فذكره ابن الدغنة بجواره . فرد عليه أبو بكر جواره ، وقال : أرضى بجوار الله .
وكان رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم ، وهم يعجبون منه ، وينظرون إليه ، فكان المشركون يؤذونه لأجل ذلك .



الساعة الآن 09:44 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc. Trans by
جميع الحقوق محفوظة لموقع و منتدى عالم الأسرة و المجتمع 2010©